تأملات حول حكاية بوشكين عن الصياد والسمكة

Sunday 31st of May 2020 07:58:46 PM ,
العدد : 4685 (نسخة الكترونية)
الصفحة : عام ,

أ.د. ضياء نافع

عنوان هذه الحكاية الشعرية التي كتبها بوشكين هو – ( حكاية عن الصياد والسمكة) , وقد نشرها عام 1835( أي قبل وفاته بسنتين فقط) ,

وكان آنذاك في أوج شهرته ونضجه الفكري , وأصبحت هذه الحكاية واحدة من أشهر حكاياته في روسيا , وخارجها أيضاً ( هي مترجمة الى العديد من اللغات الاجنبية , بما فيها العربية ) . الحكاية موجودة أصلاً باللغة الألمانية عند الأخوين غريم , بل وهناك حتى من يقول عن بوشكين , إنه ( سرقها !!!) من الألمانية ( انظر مقالتنا بعنوان – بوشكين بين الترجمة والاقتباس) , ونحن نقول هنا وبكل ثقة أيضاً, هل كان الشاعر الروسي الكبير بوشكين فعلاً بحاجة الى ( هذه السرقة !) الأدبية العلنية , وهو الذي كان يمنح – وبكل طيبة خاطر- للأدباء الروس حوله افكارا وموضوعات للكتابة الابداعية , ومنهم غوغول مثلاً , الذي أعطاه فكرة ( المفتش), و فكرة ( الأرواح الميّتة) والتي حوّلهما غوغول بعدئذ الى نتاجات خالدة في الأدب الروسي والعالمي . 

( حكاية عن الصياد والسمكة) لبوشكين تبدو للوهلة الاولى نتاجاً فنيّاً يدخل ضمن أدب الاطفال ليس إلا, وهي فعلاً هكذا في الواقع , بل وأصبحت حكاية حبيبة للصغار وقريبة جدا لقلوبهم , ولكن عظمة هذا الأدب تكمن في أنه أدب صغار وأدب كبار معاً , فالصغار يجدون فيه ما يريدون أن يجدوا من متعة , والكبار يجدون فيه كذلك ما يبحثون عنه من حكمة وأفكار عميقة , ولهذا , فإن الأدباء الذين يكتبون لنا هذا النوع من الأدب هم دائما القلّة فقط , او النخبة منهم فقط , من (وزن!!!) بوشكين وأمثاله من القمم الأدبية لدى مختلف الشعوب, ونتناول في مقالتنا هنا الجانب ( الآخر!) لهذه الحكاية الجميلة , الجانب العميق , الذي يخاطب به بوشكين الكبار في حكايته الطريفة للقراء الصغار, الجانب الذي كان يثير بوشكين في تلك المرحلة من مسيرته الفكرية .

نذكّر القارئ العربي – أولاً - بالمضمون العام لتلك الحكاية . هناك صياد سمك يعيش في كوخ متواضع مع زوجته عند ساحل البحر , وهما يقتاتان السمك الذي يصطاده هذا الصياد , وفي يوم من الأيام اصطاد سمكة ذهبية , ولكن هذه السمكة قالت له أن يعيدها الى البحر , وإنها مقابل ذلك تستطيع أن تحقق له كل ما يطلب منها , وهكذا اعادها للبحر تلبية لرغبتها دون أن يطلب شيئاً , وعاد الى بيته وحكى لزوجته قصة تلك السمكة الذهبية , وبدأت زوجته باجباره على العودة الى السمكة والطلب منها أن تحقق رغباتها , إذ طلبت تغيير المنزل , ثم تحويلها من فلاّحة الى نبيلة , ثم الى قيصرة , وكانت السمكة تحقق كل ما يطلب منها الصياد , ثم طلبت الزوجة من السمكة أن تحولها الى أميرة البحار وأن تكون السمكة خادمة لها , فاستمعت السمكة الى ما قاله الصياد لها وغطست في البحر دون أي جواب , وظل الصياد يناديها ويناديها , ولكن السمكة تركته و اختفت , فلما عاد الصياد الى بيته , وجد بيته القديم وقد عاد كما كان سابقاً , وشاهد زوجته وقد عادت الى وضعها كما كانت في السابق أيضاً.

القارئ الصغير يبقى مندهشاً وهو يتابع رغبات الزوجة وتحولاتها , ثم يرى عودتها الى حياة البؤس مرة أخرى , ويفهم هذا القارئ بنفسه (أو ربما يوضّحون له ), إن طمع الانسان يقتله . والقارئ الكبير يبقى مشدوداً الى أحداث الحكاية , ويفهم رأساً ( كما الصغير) أن الطمع قاتل , وإن رغبات الطمّاع بلا انتهاء , ولكن هذا القارئ يبدأ بطرح الأسئلة, المرتبطة بأحداث الحكاية وأبطالها , ولماذا كتبها بوشكين وهو في ذروة مسيرته الابداعية. أبطال الحكاية هم الصياد وزوجته والسمكة . الصياد رمز الطيبة والبساطة والنقاء , و تسحره الكلمة الطيبة للسمكة , فيطلق سراحها دون أن يطلب اي شيء . زوجته رمز الطمع والجشع والرغبة باخضاع الجميع دون استثناء . السمكة رمز القوة والسلطة , والتي تقدر ان تعمل كل شيء , إلا أنها – مع ذلك – سقطت في شباك الصياد البسيط . ولكن أين موقع بوشكين بين هذا الثلاثي المتجسّد بالطيبة والجشع والسلطة ؟ هنا تكمن نقطة الخلاف بين ( المجتهدين !) . يرى البعض أن بوشكين أقرب الى الصياد , اي أقرب الى النقاء الذي تسحره الكلمة الطيبة , وإن القيصر عندما قابله بعد منفاه , وقال كلمته الشهيرة , في أنه سيكون رقيب بوشكين فقط ( وهو موقع لم يصله أي شاعر في كل تاريخ روسيا ), أي أن بوشكين , مثل الصياد , سحرته الكلمة الطيبة , وتقبّلها ووثق بها , ولكن لا السمكة ولا القيصر التزما بتلك الكلمة أمام رمز النقاء في نهاية المطاف , وهكذا عادا الى حياتهما البائسة مرة أخرى , بغض النظر عن الأسباب التي أدّت الى تلك النتيجة. لكن البعض الآخر لا يتفق مع هذا الاجتهاد , ويرى , أن بوشكين أقرب للسمكة , التي اصطادها الصياد , فوعدته بتلبية مطالبه من اجل حريتها , وإن السمكة فهمت في النهاية , أنها يجب أن تختار بين الحرية وبين تلبية تلك المطالب , وإنها اختارت الحرية , رغم أن الصياد أصطادها ثم منحها الحرية , إذ إن السمكة كانت آنذاك مضطرة أن تعده بتلبة مطالبه , ولكن الحرية تبقى أغلى من كل شيء وأعلى , وعندما وصلت تلك المطالب الى التخلّي عن حريتها , فإنها اختارت الحرية رأسا دون أي تردد بشأن هذا الاختيار , وهذا ما فعله بوشكين أيضاً في نهاية المطاف . وبغض النظر عن اختلاف المجتهدين بتفسيرهم لموقف بوشكين الفكري , ولكنهم اتفقوا , أن الشاعر الكبير استخدم تلك الحكاية الشعبية الشائعة للتعبير عن موقفه الفكري العميق تجاه تلك القضايا الكبرى , التي كانت تقف أمامه في مجتمعه , وهي قضايا خالدة في مسيرة الإنسان في كل مكان.....