بلند الحيــدري وجاذبية الفلسفة (7-8)

Tuesday 2nd of June 2020 08:01:23 PM ,
العدد : 4687 (نسخة الكترونية)
الصفحة : آراء وأفكار ,

 د.حسين الهنداوي

لكن أهمية أفكار سارتر، في «ما الأدب؟» وقبله في روايته «الغثيان» وكتابه الفلسفي «الوجود والعدم» أتت أساساً من كونها «لخصت» تلك اللحظات والاتجاهات المتعارضة وربطتها بسياق جديد محمل بالأسئلة والتحولات،

هو سياق ما بعد الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩- 1944) وتأثيراتها في فرنسا وأوروبا كما لاحظ كثيرون من قبل، علاوة على أن سارتر استعمل جرأته السجالية وثقافته الواسعة ولغته الفلسفية الجامعة بين الأفكار الوجودية والفينومينولوجية، ليحلل ماهية وشروط الكتابة وعلاقتها بالمجتمع وحركيته وأسئلته المستقبلية، من منظور كثيراً ما ألحّ على أن الالتزام إنما هو وسيلة لحماية قيمة الحرية بوصفها فاعلة في مجال تغيير كل ما يقيد حياة الفرد. 

إن مثال نهاد التكرلي يكاد يلخص حالة شريحة واسعة من المبدعين في العراق وفي بلدان عربية أخرى ممن تأثروا بالوجودية، لا سيما بأفكار جان بول سارتر. 

أما نهاد التكرلي الذي اتخذناه مثالاً للمثقف العربي المتأثر بالفكر الوجودي فيقول في شهادته سالفة الذكر عمّا تبقى لديه من الوجودية بعد مرور نصف قرن أو أكثر على تعرفه عليها: «كانت الوجودية قد زودتني منذ البداية بنظرة معينة نحو ذاتي ونحو العالم، ولا شك أنها اجتذبتني كفلسفة متماسكة تبحث في وحدة الوجود المطلقة وفي مأساة الوجود، ووقتية المشاريع الإنسانية وضرورة مواجهة الموت لكنها من ناحية أخرى أوضحت لي أن من الضروري أن يعرِّف الإنسان نفسه بمشروع، أو اختيار أصلي لكيانه يصنع في الوقت ذاته قيمة معينة للإنسان والإنسانية كلها. وهذا ما يسمى بالالتزام».

الفن التشكيلي كان أيضاً حاضراً في بلورة هذه التجربة منذ البداية عبر نزار سليم طبعاً لكنه سيتعزز باللقاء مع جواد سليم خاصة. والعلاقة بين بلند ونزار الذي يكبره بسنتين علاقة صداقة قوية الى جانب العلاقة الفكرية والثقافية. 

ونزار سليم قاص وفنان تشكيلي موهوب وسليل عائلة فنية لامعة عميدها والده محمد سليم الذي يعد من أوائل المصورين العراقيين والمعلم الأول لأولاده الذي كان منهم الفنانون رشاد وسعاد وجواد ونزيهة إضافة الى نزار المولود في أنقرة بتركيا عام 1925 عندما كان والده ضابطاً هناك. وهو بالإضافة الى كونه فناناً تشكيلياً له حضوره ومكانته المبكرة في الفن التشكيلي العراقي المعاصر، فإنه ولد كاتباً مُجدداً ، إذ أصدر في بداية حياته ونشاطه الأدبي نشرة صحفية خطية بعنوان «الصبا» واستمر يصدرها حتى تخرجه من الدراسة الإعدادية، كما أنه قصصي ومسرحي وباحث في تاريخ الفن المعاصر ومترجم متمكن وبارع في كل هذه المجالات ومن مؤلفاته القصصية المطبوعة إضافة الى «الفئران» مجموعة قصصية هي «أشياء تافهة» في 1950 و«فيض» في 1952 ومسرحية «اللون المقتول» في 1953. 

أما عن جواد سليم المولود في ٠٢٩١ فيؤكد بلند نفسه أنه: "أثّر فيّ تأثيراً واضحاً " 

وهذا التأثير كان في اتجاهات عديدة برأينا: تمثل الأول في رفد الجرأة على التجديد الفني الواعي في القصيدة عبر الاقتراب أكثر فأكثر من الأشكال الجديدة في القصيدة الأوروبية الغربية، فيما تمثل الثاني بالتوجه الى استلهام وتجريب تقنيات الفنون الأخرى وخاصة الفن التشكيلي والموسيقى في بناء القصيدة كما استفاد جواد سليم من الشعر والموسيقى في أعماله التشكيلية. ولقد أوجز بلند مرة علاقته مع جواد سليم بهذه الكلمات المركزة: 

"كنا أنا وجواد نؤمن بشيء واحد رئيس: إن القصيدة التي لا صورة فيها، ليست بقصيدة، والصورة التي لا شعر فيها ليست بصورة" .

ويمكن تصور أهمية هذا التأثير أكثر فأكثر إذا عرفنا أن جواد سليم كان، مع فائق حسن، أول فنان عراقي يبذل جهوداً جادة لإدخال الفكر والتقنيات الغربية في الفن التشكيلي العراقي الحديث لا سيما بعد عودته الى بغداد من أوروبا الغربية حيث كان قد درس فن النحت الأوروبي لسنوات عديدة في باريس وروما ولندن واكتسب خبرات عدد من كبار الفنانين العالمين أمثال بابلو بيكاسو وهنري مور ومارينو ماري وغيرهم مما أهله ليؤسس فرع النحت في معهد الفنون الجميلة كما كان لولب تأسيس جماعة بغداد للفن الحديث الى جانب تمتعه بمواهب ثقافية عالية عمقها حساسية عالية حيال المنجزات التشكيلية العراقية في الفنون المختلفة والتراث منذ السومريين والآشوريين وتواصلاً مع الفن الإسلامي والزخرفة العربية والشناشيل. 

والى جانب الرسم والنحت اهتم جواد سليم بالسيراميك وبرسم الكاريكاتير وكان يصنع التحف الفضية والنحاسية، وله تصاميم عديدة لأغلفة الكتب منها ديوان الجواهري الاول وديوان (قصائد عارية) للشاعر حسين مردان ومجموعة (عرق وقصص أخرى) لجبرا إبراهيم جبرا والمجموعة القصصية (أشياء تافهة) لاخيه نزار سليم ومجموعة (أغاني المدينة الميتة) لبلند الحيدري الشعرية، إضافة الى قيامه بكتابة العديد من المقالات عن الموسيقى وفي الأدب. 

وعن طريق جواد سليم تعرف بلند على فن النحات الانجليزي هنري مور في استخدام الفراغ ليستفيد منه في القصيدة: «وقد كتبت نقداً عن هذا الفنان وسميت الفراغ الذي عنده بالفراغ المملوء، وهو فراغ ولكنه مملوء بالحياة، قرأت عن مفهوم الفراغ، فإذا بالفراغ موجود في السماء، في النجوم، في خارج الكون. والفراغ عنصر رئيس. إذن لماذا لا أدخل الفراغ بأبسط أشكاله، وأبسط أشكاله كان التفعيلة، اقطعها بمسافة من الصمت. مثلاً: تك.. تك.. فع...، إذن لم أكمل تفعيلة فعولن: (غناء رتيب تنفّس في الأرض منذ القدم)، لكن ليست هذه الغاية أن أصمت. صحيح إن الصمت موجود في الموسيقى، عندما تعزف نغما تقف أحياناً. هذا موجود خاصة عند بتهوفن. في قصيدة «شيخوخة» التي تعود الى بداية عمري، أقول:

شتويّة أخرى 

وهذا أنا بجنب المدفأة 

أحلم أن تحلم بي إمرأة

ولعل العبث، عبث كل شيء، وليس التمرد، هي الفكرة السارترية الأكثر حضوراً في قصائد فترة «أغاني المدينة الميتة» (١٩٥١) حيث القلق من القيود الكثيرة، الفعلية أو المتخيلة، التي ترسف فيها الذات الفردية وتتسبب في حيرتها ومجهوليتها ومحدوديتها ومحدودية الإدراك بأن الحرية هي قيمتها الكبرى. 

إن أسماء كافة قصائد ذلك الديوان توحي علنا بذلك حيث تتوالى: طاحونة، عبث، عقم، اعترافات بعد منتصف الليل، وحدتي، في الليل، شيخوخة، عبودية، العطر الضائع، الخطوة الضائعة، خداع، قرف، ضياع.. الخ، لتعبر جميعاً عن هموم وجودية تكاد تكون واحدة وذهنية وجاهزة، كتلك التي في قصيدة «عقم» مثلا:

نفس الطريق 

نفس البيوت، يشدّها جهد عميقْ 

نفس السكوتْ 

كنّا نقول غداً يموت وتستفيق، 

من كل دار 

أصوات أطفال صغار 

يتدحرجون مع النهار 

على الطريقْ

أو مباشرة كما في (دروب):

مل الطريق 

صمت عميق

ينهد عن قلق وضيق

أما أنا

فلقد تعبت وها هنا

سأنام

لا اهفو ولا تهفو منى

وبلا وعود

وبلا عهود

ولتبق في الأفق البعيد

تلك الدروب كما تريد

فغدا ستعبث من جديد

أو في "طاحونة" :

تلك هي الأرض

فلا تعجبي

إنْ مرّ بي الفجر

وما مرّ بي

ومات ما كان 

سوى خطوة لما تزل تبحث عن مهرب

احسها تصرخ في مسمعي:

افاق.. يا للعبث المتعبِ..

والأرض ما زالت على عهدها 

تدور حول الأبد الأسود

أو في «مر الربيع» الاكثر عبثية بين قصائد الديوان:

مر الربيع 

وهبيه مر.. غدا يعود

بمسوح قديس جديد