فايروس حرب باردة جديدة يلوح في الأفق

Tuesday 2nd of June 2020 08:02:10 PM ,
العدد : 4687 (نسخة الكترونية)
الصفحة : آراء وأفكار ,

 د. أحمد عبد الرزاق شكارة

مسار العلاقات الجيوستراتيجية الأميركية – الصينية طويل متأرجح ما بين حالة عداء توجت بحرب باردة أولى إبتدأت قبل التطبيع أي منذ 1949 (ولادة الصين الشعبية) حتى نهاية ستينيات أو بداية سبعينيات القرن العشرين ومن ثم إنطلاق مسارجديد غلّف مرحلة حيوية تعرف بسياسة أو ستراتيجية التقارب rapprochement policy بين واشنطن وبكين جرت في عهدي الرئيسين الاميركي ريتشارد نيكسون والرئيس الصيني ماو سي تونج مستمرة في عهود رؤساء آخرين للدولتين .

ستراتيجية مهندسها الأول وزير الخارجية الاميركي ومستشار الأمن القومي الاميركي هنري كيسنغر. لست في معرض تفصيل طبيعة وتداعيات العلاقات التاريخية الاميركية – الصينية ولكن من الواضح أنه وقبل جائحة كورونا لدينا صورة معقدة مزدوجة من علاقات سمتها تعاونية – تنافسية مبنية على وتيرة متصاعدة في التبادل التجاري بينهما وصلت قيمته إلى مايقارب 700 بليون دولار اميركي في عام 2018 – 2019 مع علاقات مهمة في مجالات أخرى من أمثلتها استقطاب أعداد من الطلبة الصينيين يصل إلى 350000 طالب في الجامعات الاميركية . 

كما أنه وحتى وقت قريب قبل الجائحة تصاعدت القيمة الاقتصادية للسياحة الصينية في الولايات المتحدة بصورة كبيرة جداً . من منظورمقابل آخر نجد صورة تنافسية – تحمل طبيعة صراع ستراتيجي – سياسي- دبلوماسي- اقتصادي محتمل للقطبين العالميين نشهد بعض صحائفه في الآونة الأخيرة حول قضايا متعددة من أمثلتها موقف الولايات المتحدة من تحديث الصين السريع والنوعي لترسانتها العسكرية بصورة غير مسبوقة إلى الموقف الصيني الأخير الذي ينحو لدمج مباشر لإقليم هونك كونك بصورة تكاد تكون كلية ضمن الإطار السيادي الوطني للصين . 

موقف ترى فيه الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا ودول أخرى مسألة خطيرة محورها معاداة صينية لحقوق الانسان وحرياته الاساسية وتعد مضادة للاتفاق التاريخي الذي عقد في عام 1997 بين كل من بريطانيا والصين حول إحتفاظ هونك كونك بطابع مستقل إقتصادياً ذاتياً لدرجة كبيرة جداً برغم استمرار السيادة الاسمية للصين . يضاف إلى ذلك كله موقف الصين الجيوستراتيجي المهيمن في محيطها الإقليمي خاصة في منطقة بحر الصين الجنوبي تتجسد في تنازع الصين مع دول المنطقة (تايوان، فيتنام ، ماليزيا ، الفلبين ، وبروناي) في مايعرف بإزمة أرخبيل جزر سبراتلي Spratly Islands رغم معاداة الولايات المتحدة وحلفائها . 

بمعنى من المعاني لم تخفت اصوات خبراء ومتخصصي الشؤون الاميركية – الصينية من أن بوادر إنطلاق حربا باردة جديدة *"(لاتصل لحد مواجهة عسكرية مباشرة) لاتخفى على الجميع ساحاتها وميادنها الواسعة ستندلع بين واشنطن وبكين لاسباب ومبررات متنوعة جيوستراتيجية – أمنية –عسكرية - إقتصادية –تقنية تحمل أبعاداً مختلفة (سياسية – اقتصادية ودبلوماسية) و ماهو خطير جداً تهديد سايبري متبادل Mutual Cyber threats جوهره إمكانية نقل معلومات وخبرات قيمة يتملكها الطرفان الاميركي والصيني بطرق غير مشروعة وذلك لتنمية مصالحهما التنافسية العالمية في مجالات عدة مدنية وعسكرية . 

هذا بالإضافة لتحديات تحمل معاني أو غطاءً أيدولوجياً وأخرى قد تندرج في مايعرف بسياسات وقدرات القوة الناعمة Soft Power Politics and Capabilities . الشيء الواضح والبارز في مسار العلاقات الاميركية – الصينية عقب ظهور جائحة – كوفيد 19 – المستحدث يؤكد أن مزيداً من هذه الأصوات آخذ بالتصاعد نظراً للشكوك التي تحوم حول دور الصين في ماتعتقده بعض دوائر الاستخبارات الغربية تصنيع الفيروس الجديد لإغراض بايوتكنولوجية هدفها تمكين الصين من إحتلال المرتبة الاولى في النظام العالمي . تصورات قد تصدق أولاً ولكنها تظل في إطار الحدس وليس الأدلة الموضوعية بعد. 

أما المفارقة فتكمن في أن الرئيس الاميركي دونالد ترامب وإدارته اليمينية المحافظة كانت قبل الجائحة على وشك إنجاز تقدم جلي مهم جداً في مجال العلاقات والشراكات التجارية – الاقتصادية الثنائية المتبادلة مع الصين ينهي حالة من التوتر الاقتصادي – السياسي والأمني بين البلدين والناجم أساساً عن تقاطعات في المصالح الاقتصادية – الاستراتيجية صورتها تتمثل أولاً بعجز تجاري أميركي كبير مع الصين يصل إلى (345.6 بليون دولار) في 2019 ، وماصاحبه ثانياً من حرب تجارية – للتعرفة الجمركية بين البلدين أثقلت كاهل واشنطن برغم تحسن ملموس في الميزان التجاري عن عام 2018 حيث وصل العجز إلى 419.5 بليون دولار .إضافة لسياسة صينية تعتبرها الولايات المتحدة الاميركية عدائية توسعية معادية للمصالح الاميركية و لحلفائها في المنطقة الجيوستراتيجية المعروفة ببحر الصين الجنوبي وفي مناطق متعددة من الباسفيك الشمالي الملاصقة لليابان ولكوريا الجنوبية . عقب نمو جائحة كورونا بصورة مباغتة استشعرت إدارة ترامب ولو بصفة متأخرة نسبياً (4-6 اسابيع) أن الرئاسة الصينية العتيدة تعتمد سياسة إخفاء الحقائق Covering up policy عن فايروس – كوفيد 19 المستحدث ما جعل الرئيس الاميركي يصف فايروس كورونا بإنه "فايروس الصين" أو "فايروس وهان" المنطقة التي ظهر فيها هذا الفايروس المميت السريع الانتشار والذي تسبب حتى الآن بإصابة أكثر من خمسة ملايين ونصف مليون نسمة من مواطني العالم بينما مع كتابة هذا المقال تتصاعد الاعداد الخاصة بوفيات الشعب الاميركي لتصل إلى مايفوق المائة ألف نسمة . 

وصل الأمر إلى حد أن الرئيس ترامب في مقابلة متلفزة مع شبكة فوكس اليمنية المتطرّفة إنه طرح فكرة قد تكون مثالية محورها تخلي الولايات المتحدة عن علاقتها الكلية مع الصين في إشارة واضحة للتأثيرات السلبية المتوقعة في مجال العلاقات التجارية "الاستثمارية– الاقتصادية" الثنائية بين البلدين. إن جائحة كورونا قد تكون القشة التي قد تكسر ظهر البعير لأن تأثيراتها السلبية على الاقتصاد الاميركي باتت مع مرور الوقت وتفاعل الجائحة أكثر وضوحاً بالمقارنة مع الاقتصاد الصيني (ثاني أكبر اقتصاد عالمي) . جدير بالذكر أن ترامب لايغرد خارج سرب قيادات الحزب الجمهوري في وقت تقترب فيه الرئاسة الاميركية من موعد الانتخابات الرئاسية في تشرين ثاني2020. 

ولكن ليس الجميع متفقاً مع رأيه في جعل الصين عدواً مقبلاً خاصة وأن دول العالم مازالت بحاجة للصين في مجالات عدة وعلى رأسها الاقتصاد ، التقنيات والعلوم ومسألة إيجاد حل ناجع لإزمة كورونا الخطيرة . السؤال الملح إذن : هل سيصبح موضوع دور الصين في أزمة كورونا بالفعل جزءاً من سياسة مستقبلية معادية للصين كلياً أو أن الأمر لايخرج عن كونه مجرد تكتيك لإبعاد الأذهان داخل الولايات المتحدة الاميركية عن سوء إدارة ترامب في معالجة الجائحة ؟ علماً بأن مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن هو الآخر لم يذهب بعيداً عن عدم إثارة إتهامات مقابلة للصين ودورها في إخفاء الحقائق عن فايروس كورونا ولكن الأهم إتجاه المرشح الرئاسي الديمقراطي جو بايدن نحو توجيه إتهامات ضد القيادة الاميركية للرئيس ترامب كونها اخفقت منذ مرحلة مبكرة في إدارة الأزمة بصورة رشيدة مع الصين أي قبل أن تستفحل الأمور وتتدهور صحياً – طبياً وعلمياً وتقنياً الى الدرجة التي تستوجب مواجهة جدية للجائحة بكل أبعادها وتداعياتها. من منظورها تعتقد الصين أن الولايات المتحدة هي التي تنحو في ظل إدارة الرئيس ترامب نحو تشكيل إتجاهات عدوانية – عنصرية متطرّفة ضد الصين هدفها إثارة مايعرف ب"ذهنية الحرب الباردة الجديدة" ذات طبيعة جيوستراتيجية –إقتصادية لإقصاء الصين عن المركز الاقتصادي - الجيوسياسي الثاني عالمياً. تبعاً لوكالة رويتر فإن تقريراً داخلياً نابعاً من وزارة الداخلية – للأمن الصيني حذر القيادات الصينية من أن الإدارة الاميركية تعمد لتصعيد توجهاتها العدائية الدولية ضد الصين بصورة لم تسبق منذ أحداث عام 1989 في ساحة تياننمان Tiananmen square بهدف توجيه أولاً ضربة قوية للحزب الشيوعي الصيني من جهة وثانياً ضربة مقابلة للدور الستراتيجي الصيني في المحيط العالمي أو الاقليمي للصين. 

عالم مابعد كورونا قد يفتح المجال لنشوب حرب باردة ثانية بين الولايات المتحدة مع الصين في المرحلة الأولى من منظور الصين ، إذ ووفقاً لأقوال وزير خارجية الصين فإن بلاده وإن لم ترغب في إحداث تغيير جيوسياسي على حساب النفوذ الاميركي في المحيط الدولي إلا إنها تستشعر أن واشنطن في ظل إدارة ترامب بدأت بتصعيد لغة ومضمون الحرب التجارية مع الصين ما ينذر بنشوب حرب باردة ثانية تحوم حول تنافس الطرفين على مصالح ومناطق نفوذ جيوسياسية – إقتصادية في أقاليم مختلفة من العالم.