Saturday 6th of June 2020 05:32:31 PM ,
د. اثير ناظم الجاسور
مع حادثة مقتل المواطن الأميركي " جورج فلويد" التي عرضتها كل المحطات الفضائية والتي وصفها البعض بجريمة بشعة وأحالها الآخر على العنصرية التي مازالت تعيش في التفكير المجتمعي الاميركي وركلها الثالث لتستقر في ساحة مجتمع متعدد الهويات والثقافات غير متجانس الخ...
من التوصيفات لكن بالنهاية هي جريمة غير مبررة ولا تمت للإنسانية بصلة على أثرها حدث هذا الاحتجاج الواسع الذي بات يهدد العمق الاجتماعي الأمريكي وفوضى سببت الخسائر المادية وهذا واضح جداً، ناقش البعض الآخر مسألة عدم الاستقرار الاجتماعي النابعة من أنه شعب خليط تكون من مجموعة مهاجرين يعيش حالة من قد نسميها عدم وضوح الهوية بالمحصلة هذه الكتل البشرية المختلفة في الثقافة والعادات والقيم فاقدة للقواسم المشتركة باتت تشكل لوبيات سياسية واجتماعية وحتى اقتصادية ستعمل على تصدع هذه العلاقة أو إضعاف عناصر القوى الحالية لتحل محلها عناصر جديدة وتفكير جديد، وقد تطول هذه الأحداث لكنها بالنهاية ستجد طريقاً للتسوية فهي تتشابه مع أحداث أخرى كما حدث مع " نيكسون" عام 1972 مع اختلاف الظروف والوقائع والأدوات والممارسات، والعنف والسرقة والحرق والتكسير هي ردة فعل قد تحدث في أكثر المجتمعات تطوراً خصوصاً مثل المجتمع الأمريكي وتركيبته المعقدة، لكن لا يأخذنا التفاؤل بأن ما يحدث هو نهاية الولايات المتحدة ونهاية قوتها وسيطرتها فقد تكون هذه الأحداث عبارة عن تصفية حسابات داخلية بين مراكز القوى الجمهورية والديمقراطية لكن قضية أن تنهار الولايات المتحدة تحديداً في هذه الظروف التي يعيشها العالم بعيدة ولاعتبارات سياسية واقتصادية بينها وبين القوى الأخرى، قد يكون ما يحدث يؤثر بشكل فعلي على طبيعة وشكل النظام في القادم الذي سيتحدد من خلال الآليات المتبعة بالنسبة للقوى الفاعلة فيه وهناك نسبة كبيرة من الصحة أن نفارق نظام الأحادية القطبية المتحكمة بكل شاردة وواردة لكن ليس هو الوقت الذي نتحدث فيه عن أفول القوة الاميركية على الاطلاق، قد نبدأ بالحديث عن بروز مراكز قوى جديدة داخل هذا النظام وقد يكون هناك تغيير في طريقة التفكير بالنسبة لمراكز صنع القرار والتعامل مع النظام الدولي لكن أن نتحدث عن انهيار هذا النظام بأكمله ليس بعد.
مع هذا لا يمنع ونحن بصدد الحديث عن جريمة قتل تعد ضد الإنسانية وحقوق الإنسان داخل دولة لطالما تحركت بكامل قوتها من أجل تحقيق مصالحها بغطاء هاتين المفردتين، بالتالي سنتحدث عن ديمقراطية الولايات المتحدة التي أزهقت ملايين الأرواح من أجل تطبيق مبادئها الشرسة ونظرياتها المتجددة وفق مفاهيم الأمن القومي والامن الدولي والسلام، نعم انها القوة المسيطرة على العالم التي تحاول باستمرار أن تجعله يعاني من صعوبة في التنفس والتحرك، فلا نود أن نتطرق لقضية الشعوب الاصلية وما أصابها من قتل وإبادة جماعية إضافة للممارسات الأخرى، لكن من جراء سيطرة الولايات المتحدة على هذا العالم ومشاريعها واستراتيجياتها يموت المئات من البشر يومياً بعد أن ضاق بهم العالم من جراء الحروب التي قتلتهم وهجرتهم وشردتهم ولاجئين غير مرغوب بهم، ففي العام 1945 لم تكتفِ الولايات المتحدة بملايين الضحايا التي خلفتها هذه الحرب بل ارتكبت جريمة في تصورها هي ضربة ستراتيجية وانتقامية (هيروشيما وناكزاكي) بقنابل نووية خلفت ما يقارب ( 140 الف قتيل)، واستمرت في سياستها الخانقة للشعوب في فترة الحرب الباردة التي كان العالم كله يسير على حافة السكين مع غريمها الاتحاد السوفيتي السابق طارحة للاستراتيجيات بين احتواء وتدمير شامل وضربة أولى وثانية انتقامية، وحرب فيتنام وجماعات متطرفة تحارب باسم الدين اسمتهم في حينها مقاتلي الحرية إلى أن جاءت لحظة الحسم في تفكيك الاتحاد السوفيتي والانهيار الكلي غير المنتظر على حسب توصيف " فوكوياما" في كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) للكتلة الشيوعية، وما إن أرادت الدول أن تتنفس الصعداء وتبحث عن مخارج جديدة تجعل من العالم أكثر سلاماً واستقراراً وتوازن حتى جعلت من فكرة العدو محور سياستها الجديدة للسيطرة على العالم وتتويج هيمنها كقائدة لهذا النظام، إلى جانب ممارساتها واجراءاتها التي أكدت أيضاً تعطشها للهيمنة الشرسة فهي لن تكتفي بالتحكم بمخرجات الأنظمة السياسية لا بل راحت تدعم من الأنظمة الدكتاتورية التي جثمت على صدور شعوبها بالنتيجة باتت متناقضة في سياستها الداعية للحرية والديمقراطية، وبدأت الحديث عن بيئة أمنية جديدة استطاعت من خلالها أن تكون شبكة متكاملة من السيطرة على المناطق الستراتيجية من خلال خلق هذه البيئات ومفاتيح أبوابها.
بدأت فكرة السيطرة على منابع النفط بشكل مباشر وهي ستراتيجية ليست وليدة ما بعد الحرب الباردة فالبحث عن مناطق حيوية والسيطرة عليها في صلب الستراتيجية الاميركية ليس النفط فقط ولا الموارد أيضاً حتى المواقع الجيوسياسية مهمة وتقع في ذلك التركيز، لكنها وجدت عام 1991 باحتلال العراق للكويت تطبيقاً فعلياً لـ(عقيدة كارتر) التي صرح عنها عام 1980 بالقول " إن أية محاولة من قوة معادية لتقييد تدفق النفط في الخليج سوف تُصد بأية وسيلة ضرورية بما في ذلك القوة العسكرية" ، وكانت عاصفة الصحراء أولى الاختبارات بعد الحرب الباردة لكنها لن تكتفي بإخراج العراق من الكويت لابل أصرت على محاصرة شعبه بحصار اقتصادي وبغطاء أممي خلف آلاف ضحايا الفقر والجوع ونقص الأدوية دون مساس أي ضرر بالنظام السياسي المتسبب لهذه الحرب، فيما بعد انتقلت لمنطقة البلقان تحديداً دول الاتحاد اليوغسلافي ومحيطها من أجل السيطرة على دولها بالدرجة الأولى منع التمدّد الروسي أو محاولته استعادة أراضيه السابقة والثانية قضايا أساسية ومحورية أهمها السيطرة على هذه المنطقة الحيوية فكانت تارة مع الصرب وتارة أخرى مع البوسنيين، وشرعت هي وحلفائها وخصومها لأبرام اتفاق دايتون للسلام عام 1995 لكن هذا الاتفاق انتهى واستأنف القتال بين الفرق المتخاصمة باسم الدين والعرق والإثنية، وفي عام 1999 قامت بعملياتها الجوية كوسوفو من خلال حلف شمال الأطلسي، حيث شنت ( 6 آلاف غارة جوية) واشتركت فيها أكثر من ( 1500 طائرة) من بينها ( 1300 طائرة أميركية) وكانت مدة الحملة ( 78 يوماً)، هل من المنطق وقوة كبرى بحجم الولايات المتحدة وحتى تفرض سيطرتها تقوم بحملة بهذه الضخامة فقط لإحلال السلام في هذه المنطقة.
في عام 2001 وتحديداً في 11 سبتمبر من هذا العام تم استهداف برجي التجارة من خلال طائرات يقودها انتحاريون متطرفون، وفي الحقيقة هم نتاج مقاتلي الحرية الذين علموا بمباركتها في سبيل محاربة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان 1979 أو كما يسميهم البعض بمليشيات ريغان، هنا الحدث الأكبر والذريعة العظيمة التي تم استغلالها من قبل صانع القرار الاميركي التي من خلالها روجت للعدو المتربص للولايات المتحدة وحربها على الإرهاب ومكافحته، وتصنيف الدول بين محور شر ودول أساسية وثانوية ووسيطة ومن ليس معي فهو وشعارات اجج ما اسماه " هنتنغتون " صراح حضاري بين الغرب والاسلام ، وبسبب تطبيق مبادئ هذه الحرب ايضاً اختنقت شعوب العالم وهي تترقب ما سيحدث جراء هذا الاعتداء ومصيرها الذي تتحكم به القوة الأكبر في العالم، فكانت النتيجة الحرب على أفغانستان عام 2001 وضحية هذه الحرب الشعب الافغاني الذي لازال يعاني من ضعف السيادة وتفشي تجارة المخدرات والتدخلات الخارجية في شؤونه، والعراق عام 2003 ولغاية اليوم يعيش الشعب العراقي تبعات ذلك الاحتلال بعد أن سمحت الولايات المتحدة أن تكون أرض العراق ساحة لتصفية حساباتها مع خصومها من الدول وغيرها من الجماعات المتطرفة ومساندتها للأحزاب التي نشرت الفساد والخراب فيه، ومن ثم انتقلت لتأييد ودعم ثورات الربيع العربي التي يدعي البعض إنها وظفت قوتها الناعمة وما انتجته من حكومات بديلة عن تلك التي وصفت بالدكتاتورية فهي حكومات ضعيفة غير قادرة على إدارة ملفاتها الداخلية لا بل أصبحت اكثر دكتاتورية وتشبث بالسلطة مثل السيسي الذي قيد الحريات إلى جانب قانون التظاهر المثير للجدل إلى جانب تدني سعر العملة وزيادة الفقر في هذا البلد الكبير، ثم ليبيا التي أصبحت مقسمة بين الفصائل وحكومة شرعية وأخرى غير شرعية ومتطرفي ن وغيرهم، وسوريا التي أصبح أيضاً ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية وخلفت ولا تزال الالف من المشردين والمقتولين والنازحين إلى جانب تفشي الأمراض، كل ما حل من خراب بعد حرب احتلال العراق يعد قوة ناعمة أمريكية لكنها لابد من العودة لقوتها الصلبة والستراتيجيات التي ترسم في مراكز تفكير المحافظين الجدد، لكن نجد الولايات المتحدة صامته غير آبهة بآلة القتل الإسرائيلية التي تحصد اروح المئات وتهجر وترحل الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني منذ سنوات طوال ولغاية اللحظة.
لم تكتفِ الولايات المتحدة بخنق الشعوب سياسياً وعسكرياً بل إنها أسهمت في تعزيز هيمنتها وجبروتها من خلال أدواتها ومشاريعها الاقتصادية الليبرالية الرأسمالية، تقول " نعومي كلاين" في كتابها (عقيدة الصدمة) وهي تتحدث عن الأفكار الاقتصادية التي تعد من بنيات أفكار " ميلتون فريدمان" في تأكيده على فكرة السوق الحرة والتي لاقت رواجاً لدى صناع القرار الاميركان بعد أن أصبحت أفكاره مرجعية اقتصادية أميركية، في منتصف السبعينيات كان فريدمان يعمل مستشاراً لدى دكتاتور تشيلي " اوغوستو بينوتشي" لم يكتفِ أن تم توجيه صدمة للمواطن التشيلي من جراء الانقلاب لا بل راح توجيه صدمة اقتصادية له بعد أن وجد هذا المواطن حاله أمام تضخم حاد من خلال فكرة فريدمان الداعية إلى تحول خاطف في النظام الاقتصادي لهذه الدولة، في العراق أيضاً حاول الحاكم المدني " بول بريمر" من خلال مبدأ ( الصدمة والترهيب) من خلال خصخصة كل الشركات والمصانع المملوكة للدولة لصالح الشركات الاميركية والأخرى الأجنبية ففكرة هذا المبدأ تتحدث عن التحكم في إرادة هذا العدو وبصيرته وادراكه فتجعله عاجزاً عن أي فعل، وعليه تأتي الصدمة أو المعالجة الاقتصادية كما يسمونها كمرحلة ثانية، فالتعمق في فكرة خصخصة الاقتصاد ومبادئ فريدمان الرأسمالية هي عبارة عن نظرية من خلالها تتم استغلال الأزمات والكوارث، إلى جانب ممارسات الشركات المتعددة الجنسيات التي تستنزف كل طاقة الدول التي تعمل ضمن إطارها الجغرافي، في البرازيل عام 1969 بعد أن سيطر العسكر أنشئت مجموعة تسمى ( اوبرايشون بانديرانتز) تعرف بـ" اوبان OBAN" تموله الشركات متعددة الجنسيات كان يسمونه جهاز الرعب تورطت شركة " فورد ford" الفرع المحلي هناك في أن تكون جزءاً من جهاز الرعب هذا، فقد كان الجنود يسوقون أعضاء النقابات المعترضين على طريقة إدارة البلاد ويتم اعتقالهم وتعذيبهم في سجن بُني داخل دار مصنع فورد ويتم تعذيبهم واستجوابهم حتى يتم القضاء على التجمعات النقابية هناك .
لم يكن "فلويد" الإنسان الوحيد الذي لم يستطع التنفس بل أغلب شعوب العالم خنقتها الماكنة الاميركية السياسية والاقتصادية والعسكرية، أغلب الشعوب طحنت لكونها أرادت أن تتنفس هواء الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وشعوب أخرى ماتت سحقاً لتأمين الأمن القومي الأميركي ورعاية مصالح إسرائيل والتوازنات التي بالنتيجة تصب في مصلحتها، والأهم من ذلك أن الولايات المتحدة لا تراعي مصلحة الآخرين ولا تكترث لشعوب تطحنها أنظمة موالية لها فكل ما نعنيه للولايات المتحدة جزء من معادلة أما أن نكون فاعلين أساسيين أو مشاركين.