باليت المدى: غربة الجمال وجمال الغربة

Sunday 21st of June 2020 05:43:58 PM ,
العدد : 4703
الصفحة : الأعمدة , ستار كاووش

 ستار كاووش

تعرفتُ بالمصادفة على عازف الموسيقى دِيك في مدينة خوركم جنوبي هولندا، وقد أثار إنتباهي مظهره البوهيمي الذي ذَكَّرَني بإعضاء فرقة (رولنغ ستونز)، حيث كان نحيفاً ويشدّ شعره بقطعة قماش ملونة، فزرتهُ عدة مرّات في الصالة التي يتمرن فيها، علَّه يعينني على إيجاد مرسم صغير بثمن مناسب في هذه المدينة التي يعرفها جيداً (كما يعرف جيوب بنطاله) كما يقول المثل الهولندي.

ولكون طبيعتي الشخصية تدفعني دائماً للإمساك بالمصادفات واستثمارها، كي أمضي بسهولة مع الحياة والرسم، لذا إغتنمتُ وجود دِيك وإستشرته حول بعض التفاصيل التي تتعلق بالفن في هولندا. كان قد مضى شهران على وجودي في البلد، وقد سألته ذات مرة بعد أن انتهى من بعض تمارين العزف على الغيتار، عن نوع المجلات الفنية المختصة بالرسم في هولندا، فرفع إصبعه كمن تذكر شيئاً، إشارةً منه الى أن انتظر لحظة، ثم توجه نحو الطاولة وكتب على ورقة صغيرة، أسماء المجلات المهمة التي تُعنى بالفن التشكيلي، منها تابلو وباليت وأتيليه. وهذه كانت الخطوة الأولى التي مضيت معها نحو فن الأراضي المنخفضة، أنا الجديد في هذا البلد المليء بالرسامين. وقتها لم تكن نقودي كافية للبذخ في شراء الأعداد الجديدة من هذه المجلات الفاخرة، لذا توجهت نحو باعة الكتب والمجلات القديمة لشراء الأعداد التي مرَّ عليها بعض الوقت. كانت مجلة أتيليه هي التي إستحوذت على إهتمامي أكثر من غيرها، لتوفر أعداد كثيرة منها وبسبب طباعتها الجميلة ومواضيعها حول تقنيات الرسم وكذلك حواراتها مع فنانين لهم مكانة جيدة في هولندا، وكنت أعود لهذه المجلة دائماً لأتطلع لمحتوياتها، فهي مصدر جميل وجديد يقول الكثير عن فن هذا البلد. 

مضى الوقت وحصلتُ على مرسم في ريف مقاطعة درينته حيث الهدوء يعم كل شيء، فإنغمرتُ بالرسم، وأقمتُ معرضاً هنا وآخر هناك، منطلقاً في هذا الطريق الملون. وذات يوم، وبينما كنتُ منهمكاً بالرسم، رنَّ جرس التلفون، وبعد لحظات وصلني صوت المتحدث (يومك طيب سيد كاووش، أنا المحرر الفني تيم فيرانت من مجلة أتيليه، وأود أن أُجري معك حواراً حول أعمالك وجانب من حياتك، وإن كنت موافقاً على ذلك، فهل يمكنني أن أحضر الى مرسمك؟ وماهو الوقت المناسب؟) موافق؟؟ هكذا تساءلت مع نفسي وأنا أنظر الى أعداد المجلة ذاتها، وقد افترشت أرضية المرسم، فأجبته بصيغة سؤال (هل قلت مجلة أتيليه؟) فأكد لي ذلك. شعرت وقتها أن ثمة جناحان قد نبتا على كتفيَّ لتطيرا بي نحو سعادة بالغة، وتذكرت أصدقائي في بغداد. كيف لا؟ ومجلة أتيليه تهتم بي وتعترف بوجودي كفنان خارج بلدي، وفي بلد مليء بفنانين أقل ما يمكن أن أطلقه عليهم هو أنهم (سحرة الفن)، وفوق هذا ترسل المجلة أحد محرريها لمرسمي البسيط الذي توقعتُ أن لا أحد يعرف مكانه. اتفقنا على الموعد، وبسرعة كبيرة رتبتُ مرسمي الفوضوي وأخليته من بعض اللوحات غير المكتملة وبعض التفاصيل التي تتعلق بمشاريع قادمة. وفي الوقت المحدد حضر الصحفي لمرسمي وقضينا طول النهار معاً، حيث تعلقت أسئلته بالتقنيات والشخوص التي أرسمها. حدثته عن أمي في بغداد ولوحاتي التي تركتها هناك، عن مرسمي الجديد هنا، عن الأغاني الهولندية التي أستمع اليها أثناء الرسم، وعن الخيارات المتعددة في هذا البلد الذي يضم أكثر من ثمانمئة متحف، فحين لا يعجبك الفن الكلاسيكي ولوحات ريمبرانت، يمكنك أن تتوجه الى متحف كوبرا، وإن كان هذا لا يثير عندك شيئاً فتسحب خطاك نحو متحف فان غوخ، وإن كنت تريد أن ترى شيئاً مختلفاً، فبإمكانك عندها زيارة متحف لاهاي، وهكذا تتعدد الخيارات والحلول الفنية لتصل حتماً في النهاية الى شيء يتطابق مع ذائقتك وما تريده من الرسم. ذهب الصحفي تيم الى المجلة وبقيت أفكر بكلماته وما أثاره من أسئلة وموضوعات. 

بعد يومين إتصلتْ بي مديرة تحرير المجلة لورا خرون، تخبرني بأنها بعد أن إطلعت على الحوار وصور اللوحات، قررت أن تتصدر واحدة من لوحاتي غلاف المجلة كاملاً، فشكرتها على الفور، ثم ضحكت في سري وتذكرتُ كيف كنت قبل فترة ليست بعيدة اشتري الأعداد القديمة فقط من هذه المجلة، لأن الأعداد الجديدة ثمنها ليس في متناول اليد، لكن العدد الجديد سأشتريه حتماً فور خروجه من المطبعة، لأن غلافه سيكون واحدة من لوحاتي.