اليابان وظلال مقارنة بالعراق

Sunday 28th of June 2020 06:24:11 PM ,
العدد : 4709
الصفحة : آراء وأفكار ,

 د. جاسم الصفار

المرحلة التي أعقبت سقوط حقبة الدكتاتورية الصدامية في العراق ألقت الضوء على مظاهر اجتماعية ربما كانت قد تبلورت ملامحها في المجتمع العراقي في فترة حكم الدكتاتور المقبور صدام حسين منذ ثمانينيات القرن الماضي وترسخت بعد هزائمه المتوالية في حروبه العبثية، وسأحاول في هذه المقالة المتواضعة أن ألقي حزمة ضوء على بعضها دون التعمق في دراسة أسبابها، مكتفياً بدلاً عن ذلك بمقارنات، على هدي الحكمة الروسية "كل شيء يعرف بالمقارنة".

بعد انهيار حكم الطاغية واحتلال بغداد من قبل القوات الاميركية، خرج العراقيون الى الشوارع، بعضهم يعبر عن فرحته بنهاية حكم صدام والبعض الآخر خرج ليحرر غرائزه بمخالفة النظام العام، كتعبير عن التحرر من عقدة الخوف التي زرعتها الدكتاتورية في نفوس المواطنين، تمثلت بأعمال عبثية كالإساءة لمن تواجد في الشوارع صدفة من رجال الشرطة، أو بالمخالفة المتعمدة لنظام مرور العجلات وما الى ذلك من أعمال وضعت خطأ تحت يافطة الحرية.

أما الجزء الأكبر من الذين نزلوا الى الشوارع في تلك الايام، وهم غالباً من المتأقلمين مع نظام البعث والذاعنين له ظاهرياً، فقد انشغلوا باقتحام مؤسسات الدولة ونهب محتوياتها من أثاث وتحفيات ووسائل نقل وإنتاج وكل ثمين وقع بين أيديهم ولم يردعهم شيء عن سرقة آثار العراق وشواهد تاريخه العريق لبيعها والاستفادة من ثمنها.

أما الأحزاب المعارضة للنظام السابق، أو التي ادعت فيما بعد معارضتها، سواء الدينية منها أوالطائفية أو السياسية المساندة للمحتل، فقد انشغلت بوضع يدها على مصادر ثروات العراق الطبيعية والعقارات المملوكة من قبل النظام السابق أو رموزه التي لاذت بالفرار، هكذا استبيح العراق وكسرت "أرجله وأذرعه" لكيلا يتعافى ولا يسعى ثانية نحو التطور كما حصل في دول اخرى مرت بفواجع كارثية في القرن الماضي كألمانيا واليابان وغيرها. 

أصبح العراق في ظل نظام المحاصصة الاثنية والطائفية والحزبية الذي صمم المحتل قواعد عمله، عاجزاً عن بناء اقتصاد قائم على الانتاج الصناعي والزراعي وبالتالي عاجز عن مواجهة أي أزمة مالية قد يمر بها العالم وتنعكس على اقتصاده إضافة الى كونه لم يعد يملك مقومات لمواجهة الكوارث الطبيعية والوبائية، لذا ذعر العراق من احتمال نقص موارده المائية بسبب السدود التي أقامها جيرانه على منابع نهري دجلة والفرات كما تملكه الرعب في مواجهة التهديد بانهيار سد الموصل على نهر دجلة سواء لأسباب تكوينية تخص القاعدة التي شيد عليها أو بعد تهديد عصابات داعش الارهابية بتدميره.

أما بالنسبة لمواجهته للأوبئة فقد كشف العراق عن عجز شبه مطلق وجهالة وفوضى في إدارة الأزمة الصحية الناتجة عن انتشار وباء فايروس الكورونا. هذا بينما اليابانيون، على سبيل المقارنة، في حالة استعداد تام لمواجهة أي كارثة محتملة، وهم يتوقعون دائماً حدوث شيء سيئ، لذلك لم تلاحظ في ردود فعلهم على الأزمة الحالية المتمثلة بانتشار وباء فايروس الكورونا ذعراً وهستيريا، ولكن هناك رغبة في حل المشكلة. لذا يفكر اليابانيون الآن وهم يواجهون تهديد فايروس الكورونا، على سبيل المثال، "هل سنكون قادرين على عقد الألعاب الأولمبية العام المقبل؟"، أي أنهم واثقون من نتيجة المواجهة ولكنهم قلقون من أن تطول فترة هذه المواجهة بحيث تعطل جدول استعداداتهم للتهيؤ للألعاب الاولمبية.

إن ما حدث أثناء مأساة فوكوشيما -1 عندما تعرضت اليابان لكارثة بيئية (تطورت بعد زلزال اليابان الكبير في 11 آذار 2011 وعطلت مفاعل فوكوشيما 1 النووي) يعبر بجلاء عن التركيبة النفسية لسكان اليابان، واجه المجتمع الياباني موحداً تلك الكارثة المصيرية بصبر وعمل دؤوب لتجاوز الأزمة بأقل خسائر ممكنة مع الحفاظ على ملكية الأفراد والمجتمع، لذا لم تحصل عمليات هجرة غير منظمة ولا أعمال نهب وفوضى وتدمير كما تعودنا على ملاحظتها في مثل تلك الظروف في دول اخرى.

وتجدر الإشارة الى حدث كارثي آخر مرت به اليابان في عام 1995 بمواجهتها لعملية تخريبية قامت بها جماعة أوم شنريكيو التي نفذت عملية هجوم بالغاز السام في مترو طوكيو والتي ما كان من الممكن تفكيك هذه العصابة الدولية واعتقال أفرادها دون التضامن الكبير بين المجتمع الياباني واجهزة الدولة الأمنية. مثل ذلك ما كان ليحصل في العراق بسلطته الدكتاتورية وشعبه المغلوب على أمره، ولنا في حادثة "أبو طبر" مثال. 

هناك عدة أسباب. بادئ ذي بدء، تعيش اليابان في مجتمع غير ديني يتبنى معظم سكانه الشنتوية، وهي ليست ديانة بالمعنى المعروف عن الديانات، وما نشر عنها بعد القرن السادس عشر يشير الى أنها مجموعة تعليمات وتقاليد. هذا مهم، لأنه في الشنتوية، كما في الكونفوشيوسية، ليس الاله هو الرقيب على تصرفات الانسان، ولكن المجتمع والناس. فإن لم يتعلم الانسان الفرد كيف يجعل من المجتمع هدفاً أسمى، فلن ينجح في شيء. 

في العراق، منذ انتشار الديانات، وآخرها الإسلام، أصبح الرقيب على تصرفات الناس هو الله القدير والمبصر. وليس في ذلك من ضير، لولا أن كهنة الديانات والقيمين عليها وهبوا أنفسهم صفة المتحدث باسم الله وقرروا أن المعيار الوحيد للحساب في الآخرة هو مدى الالتزام بنصوص دينية انتقوها وفسروها كل على هواه، فاختلفوا وخالفوا أصول الدين ومغزى الرسالة الربانية. 

لذا، فبينما نعيش اليوم في مجتمع ينظم شؤون أفراده فيه قانون "وضعي" ليس من صنع الله، وإن لم يتعارض مع إرادته، نجد من بين القيمين على الديانات، من يدعو لخرق تلك القوانين والتحايل على آليات تنفيذها. فالله بالتالي، حسب تفسيرهم لا يحاسب المخلوق على خرق قانون لم ينزله عليهم ، لذا فبما أن أجهزة الدولة هي التي قامت بتشريع تلك القوانين، تقع عليها وحدها مسؤولة تطبيقها، وهي التي ستحاسب المواطنين على خرقهم لها، وبالنتيجة فان تمكن "المؤمن" من خداع أو كسب رضى رجل الشرطة، أو إن تمكّن من خرق القانون بعيداً عن أنظار رجل الشرطة فانه في حل عن العقاب و"لا ذنب عليه ولا هم يحزنون"، أو كما يقول الروس "ليس لصاً من لم يقع في قبضة القانون". 

في سياق مواجهة وباء فايروس الكورونا في اليابان يعتبر تجاوز التعليمات الصحية لحماية المجتمع بأسره والخروج بدون قناع واق ودون قفازات، عملاً متهوراً وحماقة لا يمارسها إلا نفر قليل من اليابانيين ، فبالالتزام بالتعليمات يدرك الفرد أن المساهمة في إجراءات تحمي المجتمع ستمنحه إضافة الى الحماية الاجتماعية وعدم الازدراء من الآخرين فإنها ستمنحه شعوراً بالنضج والمسؤولية. 

نحن نستنكر أساليب الرقابة والترصد للمخالفين للقانون، لأننا لا نثق بالسلطات. لكن هذا أمر طبيعي في اليابان، حيث لا تعتبر قوى الامن عدواً مسلطاً على المجتمع، بل وسيلة دعم للنظام الاجتماعي. فالشرطة في اليابان دليل المواطن ومعينه على تجاوز أي ضائقة يمر بها، فتعزيز الثقة بين المواطن وأجهزة الدولة يلعب في اليابان دوراً أساسياً في حفظ النظام العام، وبالطبع لا يمكن بناء هذه الثقة مع أجهزة سلطة استبدادية، فلا أمان في ظل الاستبداد، كما أن الاستبداد يقوض تماماً الرابط بين المجتمع والفرد الذي تقوم عليه تعاليم الشنتوية والكونفوشيوسية. 

مشكلتنا هنا في العراق هي إننا مختلفون مع أنفسنا، لدرجة إننا لم نعد مجتمعاً واحداً بل مجتمعات متناقضة الإرادات والرغبات، يشعل نار فرقتها "ممثلو ورموز" الديانات والطوائف والقوميات والأحزاب المتناسلة منها. بينما في اليابان، الفكرة مختلفة: "الكل يابانيون"، لا تفرقهم في ذلك أي انتماءات فرعية. والكل جزء من أمة يابانية واحدة، أقيمت على عجل. البعض في اليابان يضحك من فكرة أن الناس من هوكايدو لا يفهمون الناس من أوكيناوا، إنهم جميعا شيدوا دولتهم بكل مثلها وأعرافها الاخلاقية والسلوكية الموحدة التي يدافع عنها الجميع ولا يختلفون في إدانة من يخرج عنها أو يسيء إليها. 

ذهبت الى غير رجعة تلك الحقبة من الزمن، والتي استمرت حتى بداية القرن الماضي، حين كان اليابانيون يعتبرون أنفسهم الأفضل من بين الشعوب الأخرى وكانوا مستعدين للموت من أجل الإمبراطور والوطن، لتقضي الحرب الكونية على عقدة التفوق وأصبح اليابانيون يجدون متعة في حقيقة أنهم وسط شعوب أخرى مختلفون بلون بشرتهم وطول قامتهم أو بطريقة تفكيرهم ولا يضعون لتلك الاختلافات صفات التفضيل بأي شكل من الأشكال. وفق هذه الثقافة الاجتماعية يعيش اليابانيون اليوم بدون تفوق وعدوان. 

اليابان تتجنب أي تصعيد سواء مع جيرانها أو مع الدول البعيدة عن حدودها، هذا رغم أنها تشعر بالهلع عندما يتعلق الأمر بكوريا الشمالية بسبب التهديدات التي لم تتوانَ كوريا الشمالية عن التصريح بها، كما إنها تشعر بالحذر الشديد من الصين رغم أن الصين لا تظهر أي نوايا عدوانية تجاه اليابان، والسبب، على ما يبدو، يكمن فيما تمثله الصين من قوة عظمى تربطها بأميركا، الحليف الرسمي لليابان، علاقات معقدة ومتشنجة في الفترة الأخيرة. ولكن على العموم فإن اليابان ليست مستعدة حالياً لوضع يفرض عليها شد الأحزمة وتقديم التضحيات. وبالمناسبة، فان اليابان لم تكن قط بلداً غنياً، وتجربتها في الرفاهية قصيرة جداً، تبدأ من ستينيات القرن الماضي. وقد يمنح هذا اليابان قدرة أكبر على تحمل الأزمات المالية التي تجتاح العالم دورياً.