الشعراء أرواح المدن الحيّة.. موفق محمد نهر المدينة الدافق

Monday 27th of July 2020 07:02:17 PM ,
العدد : 4734
الصفحة : عام ,

عارف الساعدي

قبل مدة كتبتُ على حاسبتي مقالاً عن الشعراء والمدن وماذا تُشكل هذه المدن بالنسبة للشعراء، وما أثر الشعراء على نبضها وروحها الحية،

وبما إني مستخدم متخلف للتكنولوجيا فقد تصارعت أنا وطفلي الصغير على "الكيبورد" فراحت الأصابع باتجاه أحد الأزرار، وإذا بالمقالة قد انحذفت تماماً، ولم يبق منها سوى جملة كتبت عرضا فيها، والجملة هي ((الشعراء أرواح المدن الحية )) ولم ينفع كل شيء لاستعادتها، فقد فتشت عنها في كل مكان، فلم أجدها، فلعنتُ "الكيبورد" والتقنية الحديثة، ورغم ذلك فإن هذه الجملة باستطاعتها أنْ تفتح الشهية للكتابة.

لقد انشغل الشعراء بعد النصف الثاني من القرن العشرين وعلى وجه التحديد الشعراء العرب، والعراقيين على وجه الدقة بالمدينة ، إذ لم يخل ديوان من دواوينهم من قصيدة واضحة باتجاه المدينة، ودائماً هذه القصائد محل التباس وشكوى، حتى وصلت إلى محطة للهجاء، ودائماً كانت هذه النصوص تنطلق من الشعراء القادمين من الريف ، حيث ظلوا مشدودين لأجواء الريف، ونقاوته، وخضرته، ومع هذا لم يغادروا هذه المدن التي يشكون منها، ومن جفوتها، في وجوههم أو من نسائها المتكبرات على أولاد الريف، الذين لا يملكون غير القصيدة ، لهذا بقيت هذه العلاقة بين الشاعر والمدينة علاقة إشكالية كبيرة، وربما كان السياب أحد أهم الشعراء الذين لديهم موقف واضح إزاء المدينة ومطولته الشهيرة المومس العمياء بوصلة واضحة لعلاقته بالمدينة حيث يقول 

الليل يطبق مرة أخرى فتشربه المدينة

والعابرون الى القرارة مثل أغنية حزينة ....

عمياء كالخفاش في وضح النهار هي المدينة 

والليل زاد لها عماها يقول 

ولكن اللافت في الموضوع إنَ هناك التفاتة ذكية التقطها الشاعر والناقد د.علي جعفر العلاق حين مرَّ في إحدى بحوثه على الشعراء، وعلاقتهم بالمدن، وإنهم اتخذوا موقفاً مضاداً منها لا بسبب من المدينة نفسها، إنما بما أسماه بـ "عدوى التشاؤم" وهي عدوى تأثر بها الشعراء جميعاً بـ "إليوت" بعد ترجمة قصيدته الشهيرة "الأرض اليباب" أو الأرض الخراب، حيث هجا إليوت مدينته لندن وعرَاها تماماً، لذلك فالشعراء تكهربوا بهذه العدوى، فبدأوا برثاء وهجاء مدنهم ، والأمر الآخر الذي يدلل على عدوى ذلك الهجاء حسب قول العلاق، إن العرب جميعاً لا يملكون مدينة لها معالم محددة، وسياقات أو أنساق مدينية أو أن لنا مدينة تشتبك فيها العلاقات كما تشتبك علاقات المدن العالمية الكبرى مثل لندن أو نيويورك ، إنما نملك نحن العرب مدناً حديثة في الشكل، ولكنها منقادة في نسقها المضمر للعادات الريفية والبدوية والعشائرية. 

لقد أعجبتني كثيراً التقاطة العلاق الذكية وبقيتُ مؤمناً بها لمدة ليست بالقصيرة، وما زلت مؤمناً بالكثير منها، ولكن الغريب ان مثل هذه الرؤية ستتبدد بمجرد أن ترى "موفق محمد" في مدينته الحلة، حيث تسكن المدينة في روحه، كما يسكن روح المدينة.

فمما لاحظته ودفعني لهذه الكتابة هو روح المدينة التي تسكن "موفق محمد" وكذلك روح الشاعر التي تطوف فيها، حيث الحلة واحدة من أقدم المدن والحواضر التي لها سياقات المدن من حيث عاداتها، ولهجتها، وتقاليدها، وبساطتها، في الوقت نفسه. 

موفق محمد يسير في طرقات الحلة فيعبرون إليه الشباب ليسلِموا عليه، بوصفه صوت هذه المدينة، وهو يرد عليهم بكل تلقائية وبساطة، فهو الشاعر والمُعلم الذي تخرج من يديه المئات من أولاد هذه المدينة . 

ما وجدته في موفق أنَه بقي ملتصقاً في مدينته، لم يغادرها، ولم تغره العاصمة للحاق بركب الشعراء القادمين من مختلف المحافظات، طبعاً هو وكاظم الحجاج أيضاً يتصف بالتصاقه بروح المدينة، لذلك شكَّل موفق محمد عبر أكثر من خمسين عاماً بصمة في روح المدينة، وصوتاً يتردد في درابينها، وخماراتها، وأزقتها ، وبمرور الزمن تحول هو نفسه إلى مدينة كاملة، تسكن في روحه مقاهيها القديمة، وشخصياتها الأسطورية، وشعراؤها الشعبيون، ومغنوها بما فيهم "سعدي الحلي" بل على رأسهم سعدي الحلي، الذي حظي بعنوان لمجموعة كاملة لموفق محمد ، فماذا يعني لنا ونحن نضحك مع موفق وهو يسرد لنا ذاكرة المدينة من خلال شخوصها وعلاقاتهم ومن خلال أزقتها وما جرى فوقها ، لا أظن إن مدينة التحمت بشاعر كما التحمت الحلة بموفق محمد، الذي يصرح في نصوصه أنه ولد قريباً من شط الحلة، وتعمَد بمائها، وشرب من خمرها الأسطوري المشعشع في صوت سعدي الحلي. 

موفق محمد يكسر قاعدة الشعراء في موقفهم من مدنهم، بالتصاقه الحاد بها، وبتفاصيلها، وبقصائده التي لا تخلو من الحلة، مغنياً لها، ومتغنيِاً بها، وبسحرها، وببساطتها، ومهدهداً تعبها، وملتقطاً شيبها من لحيتها الكبيرة.حيث يقول " في الفجرِ يقف الحلـِّيون على شطِ الحلةِ خاشعين لقبابِ آل ِ البيتِ وهي تتوكأ على جراحها وتجري قاصدة ً النبيَ أيوبَ الذي يرقدُ على إحدى ضفتيه متدرعاً بالصبر والسلام ليضمدَ جراحَه بشمسِهم التي لا تغيبُ بعدها ينتشرونَ في الحلةِ التي هي بحجم رغيفِ الخبز ِ شكلاً ورائـــحة ً وطعمــــــــــاً طلباً للرزق ِ الحلال "ِ

موفق محمد يصرح دائماً بأنه ليس شاعراً، إنما هو راوٍ لشاعرةٍ اسمها الحلة حيث يقول "لم أكن شاعراً في يوم ما… فأنا راوٍ لشاعرة اسمها الحلة، أنا أحب الحلة لأني ولدت على بعد موجتين من نهرها» 

ومثلما منح موفق محمد الحلة كل شعره وحياته، فإنها كافأته أيضاً بأن توجته دليلاً لفراديسها، فهو الشاعر الوحيد في العراق يفتتح تمثاله بيده، ولا أظن إنَّ تكريماً أكبر من هذا التكريم حيث يتبرع أحد كرام الحلة وهو الدكتور عادل الكرعاوي أحد تلامذة موفق محمد في الحلة، بإقامة تمثال من عمل الفنان طه وهيب للشاعر "موفق محمد" لينصب في قلب مدينته، على ضفاف الفرات، ويفتتحه بنفسه موفق محاطاً بمحبيه ومريديه، لا أظن إن شاعراً يحلم بأكثر مما حصل عليه موفق محمد، لأنه يستحق كل ذلك فهو المخلص لقصيدته ولقضايا أهله وناسه خالياً من العقد، بل ممتلئاً بكل ما يبعث على الحياة من فرح خفي وضحك مخنوق، فألف تحية للحلة ولشطها ولشاعرها.