(تساؤلات) بابلو نيرودا، و(مستحيلات) عبود الكرخي..مقاربة في النص

Tuesday 28th of July 2020 06:23:14 PM ,
العدد : 4735
الصفحة : عام ,

جمال العتّابي

وأنت تعتزم أن تبدأ شوطاً آخر في الكتابة ، فينبغي أن يكون جديداً ، أقرب إلى المغامرة، فأي عبء حملك للخوض في تجربة تثير التساؤل عن الجدوى والمعنى والأثر الفني، عليك أن تصون خطاك من أن تنزلق ،

أوتذهب بعيدأ في التأويل والإستنتاج، أو الإفتراء والإقحام، فلا إرتجال ولا تباهٍ، بل مسؤولية ثقافية تلزمك الموضوعية والحذر، وأنت تبحث في نصين لشاعرين مختلفين تماماً، ليس ثمة علاقة بينهما، بل هما نقيضين، بينهما فاصل زمني وحضاري ، بين عصرين وبيئتين وثقافتين،لا جامع يجمعهما، فالشاعر عبود الكرخي المولود في بغداد 1861 يكتب شعراً محلياً خالصاً، لايتجاوزحدود جغرافيته العراقية، يجمع تلقائياً بين عناصر النظم التلقائي ، وبين نزوات ذات متمردة ، حرة ساخرة، أكد من خلالها شخصيته الشعرية التي تواصلت مع حياته تواصلاً دائماً لم ينقطع، وبابلو نيرودا الشاعر التشيلي المولود عام 1904 يعد من أشهر الشعراءعالمياً وأكثرهم تأثيراً في عصره، وأبرز الناشطين سياسياً، نال جوائز تقديرية عديدة ، أبرزها جائزة نوبل للآداب عام 1971، فكل من الشاعرين نسيج وحدهما، ما يجمع بينهما هو الصدق في التعبير، وقدرة النص في التأثير، متمثلاً بقصيدة (المستحيلات) لعبود الكرخي ، وقصائد (تساؤلات) لبابلو نيرودا ، بترجمة سحر أحمد، منشورات (أزمنة-عمان)، قصيدة الكرخي إكتسبت شهرتها لفضيلة الصدق فيها ، ونكهة الغرابة ، وجمال الحرية،

(تساؤلات) نيرودا ، نداء إنساني عميق، بقطعة فنية متكاملة، تستحث الرغبة في البحث والإكتشاف ، عن حرارة التماثل والتواتر، مابين مفردات متضادة ، كلون جديد من التأليف الشعري لبابلو نيرودا، معتمداً خبراته الفنية وطاقاته الشعرية، بإعتبار النص مضموماً للغد، بعناصر متجاورة أو متناقضة ، في حوار نصغي إليه بكل جوارحنا ، ترتقي فيه المهارة والمعرفة الموسوعية للشاعر، بما يحمل من الطرافة والحكمة والسخرية ، مع إسراف في الخيال .

في النصين تجتمع مفردات بصيغة السؤال، في أول المقاطع الشعرية لكليهما(لماذا، هل، علام ...وغيرها) عند نيرودا، و(يصير، بمعنى هل بالإمكان ؟) عند الكرخي، السؤال عن الهوية، والزمن والمكان، والأخلاق ، والتاريخ، هو مزيج بين أين ؟ ومتى؟ والمفردات تعبرعن قلق الإستجواب ، والبحث عن السبب والمعنى، والأصل ، بمجموعها هي أسئلة وجودية عن المصير، تبحث عن أجوبة ممكنة ، كما في نص نيرودا :

لماذا يكتبون في العصور المظلمة بحبر خفي ؟

لماذا إخترت الهجرة إذا كانت عظامي تسكن شيلي ؟

لماذا لايبادر الخميس الى الحضور يوم الجمعة ؟

علام يضحك البطيخ ساعة ذبحه ؟

هل صحيح ان الكندور الأسود يطير فوق بلادي ؟

هل يحق لي أن أسأل كتابي ، أصحيح أنا صاحبه ؟

حين يتأمل السجين النور ، فهل هو النور نفسه الذي يسقط عليك ؟

بأية لغة يتساقط المطر على المدن المفجوعة ؟

يحملنا النص في قراءته السريعة إلى السؤال أيضا، عن معنى ضحك البطيخ في ساعة ذبحه ؟ وكيف يبادر الخميس إلى الحضور يوم الجمعة، إن القراءة المتأنية التي تحاول أن تلتقط الخيط الداخلي لعالم النص، تقودنا إلى رؤية ما يوّحد بين تبعثرات النص ، أو بين التفاصيل المحتشدة فيه، رؤية عالم له تماسكه ،في النص فعل وسؤال، يطول ماهو يومي وعادي، لكنه يصل شعرياً ، إلى ما هو عمقه المأساوي، فيكتسب اليومي والعادي دلالات إيحائية يشد بعضها إلى بعض .

بمثل هذه العذوبة والإقتصاد في اللغة، والسخرية التأملية ، كتب نيرودا تساؤلاته، تلك دروس مكتوبة على الورق، إغتنت بأصالة الشاعر وموهبته، وإمتلاء عقله . 

ولنتأمل تلك الأسئلة في قصيدة عبود الكرخي السريالية المشهورة (المستحيلات)، مثل ومضات نقية، إنها الأداة الأكثر إستجابة للمشاعر الخفية، ما دامت الدنيا بأجمعها تطفو أمام عينيه وتغطس في مستنقع عفن ، وما دام الشقاء قائماً،

في قصيدة عبود الكرخي لغة واضحة ملموسة، تكتسي في أعماقها بحزن ومرارة الواقع، لايخفي فيها الكرخي إحتجاجه على سلطة التقاليد والخرافة، يهجو سلطة الإحتلال، والإدارات الحكومية، ويسخر من الواقع الإجتماعي المتخلف بلغة لا تستهلكها الصنعة :

يصير بالجنة إلي حورية ؟

يصير أبو الجنيب ما يمشي صفح؟

يصير بالبدوان إسم مرزه قلي؟

يصير بعرور إنزرع يطلع غنم؟

يصير تكدر تربط البكة بحبل ؟

يصير بالمعدان إسم عيشة وعمر؟

يصير من لندن تجي مجارية؟

يصيرمن تيس الصخل تحلب حليب؟

يصير نملة تدفع الملوية؟

يصير تمشي سافرة الحجية؟

لقد منحت الحياة الجرأة والوضوح لعبود الكرخي ، فجاءت قصائده إعترافات وخواطر وبيانات شعرية ، القصيدة عنده نفثة تصل إلى هدفها بخط مستقيم، بضربات سريعة، إكتسبت رؤيتها الإستشرافية للواقع العراقي ، دون أن يخشى إرهاب السلطة، لجأ إلى الهجاء سلاحاً، والإلتزام بقضايا شعبه ، يقول عنه الأب أنستاس الكرملي: ان كل قصيدة من قصائده تساوي ديوان شعر، ويسميه الرصافي بشاعر الشعب ،

في (مستحيلات) الكرخي ألم محتدم ، وسخرية تستعر في قلبه وجسده، لم يكن مقلداً، ولم ينتحل تجربة آخر، إنه يحمل القارىء إلى البحث عن الجواب المستحيل في ذاك العصر على الأقل ، ويثير فيه عواصف الإحتجاج، والمجابهة والتمرد، القصيدة تتدفق بالأسئلة بموجات من الغرائب ، وإبتكار الصورالمستحيلة (يصير نملة تدفع الملوية) ، بنقلات هادئة متجانسة ، ومتزاحمة ولمّاحة ، بإيقاع موسيقي يعزز طابع السخرية في النقائض، ذلك ان الكرخي يدرك ، ان هذه اللغة هي الأكثر قدرة في التعبير عن نبض الضمير الممزق بين مخالب النقمة والمهانة وجوع الذل .

الشاعران نيرودا والكرخي أتقنا أشياءً كثيرة في حياتهما، التجوال والسفرعمّق تجربتهما، وأضاف لهما معرفة بثقافات الشعوب ولغاتها ولهجاتها، فضلاً عن وعيهما السياسي والإجتماعي والوطني بالأحداث، عبر إحالات وتداعيات تنهض بالنص وتعبر عن الموقف، مع ضرورة التمييز بين الشكلين البنائي واللغوي في النصين ،والمستوى الفني بينهما، انهما يدركان معاً إستحالة تحقق الأماني، والزمن لايرجع إلى بدايته ، ولا تبدو الأشياء أليفة طيعة ، يستولد فيها الشاعر عالمه المفقود ، أو يستعيد به حضوره المنفي .