سلامٌ عليكِ

Sunday 2nd of August 2020 08:19:58 PM ,
العدد : 4739 (نسخة الكترونية)
الصفحة : عام ,

حيدر عبد المحسن

(("سأموتُ عند الفجر"

قالتْ

واختفتْ في وردةٍ جوريةٍ حمراء))

يكون الشعر طريقة حياة عندما لا يعيش الشاعر مع نفسه. لو سمعتَ عبد الكريم كاصد وهو يذكر اسم زوجته، وكيف تشرق عيناها مثل طفل، لعرفتَ مكانة هذه المرأة في قلبه. يقول (حَذام) بفتح الحاء، كأنه يقول (حَياة). حياتُهُ، وحياةُ ولديه، سارة وزياد، وحياةُ شِعره. رحلتْ (حَذام) و: 

((تركتنا ثلاثة:

غصنان أخضران

وجذع يابس))

يبقى الشعر يقظًا، يتأمل الموت عندما يرسم لنا هذه الشجرة العجيبة، حيث جذورها تمتدّ هنا، وفي العالم الآخر. في ستين قصيدة، هي مجموعته الشعرية التي تحمل اسم زوجته، يحاول عبد الكريم كاصد تصوير هذه الشجرة من زوايا متعددة، كأنه يرسم لوحة تجريدية لحالة شعورية ألمّت به منذ اللحظة التي فارقت فيها زوجته الحياة. قصائد قصيرة يغلب الخيال فيها على الواقع، ورغم ذلك فهي بسيطة، وواضحة، كل قصيدة تختلف عن الأخرى، لكنها تشبهها في نفس الوقت. الأمر الأهم هو غياب حسّ الفجيعة ومرارة المحنة، رغم الأسى والحزن اللذين يرشحان من صفحات الكتاب: 

((كلّ شيء على حالِه

المدينة والناس

أسواقها والضجيج

كأنّكِ ما كنتِ يومًا هنا

تذرعين الشوارع

مشغوفةً بالمدينة والناس

ما كنتِ يومًا...))

وهكذا يأخذ الشاعر ترتيب حياته الجديدة؛ يمرّ في شوارع أخرى، ويرتاد محلات وأمكنة غريبة عنه، ولا يعرف كيف تقوده خطواته المضطربة أخيرًا إلى الباص الذاهب إلى المقبرة. لا يصدّق أن رفيقة عمره مدفونة هنا. يحاول أن يرجع بالزمن إلى الوراء، ويعود بخطى مسرعة إلى البيت، وفي الطريق يوهم نفسه بإمكانية أن يلتقي بـ"نصف جسده الذي من لحم ودم". المدينة برمّتها تستكين، الوقت كان الأصيل، ورائحة المطر تعمّ، وحدث ما يشبه الاختلاج في ضوء النهار:

((ها أنا الآن

آتي إليكِ...

وقد مرّ عامان

بابٌ ولا بيتِ

والأرضُ

لا أرضَ أبصرُ)) 

إن مهمة الشاعر في النظم لا تنتهي، فقد يداهمه الشعر في أيّ وقت، وأن كلّ شيء في البيت، وفي خارج البيت ليس سوى تذكارات من رفيقة عمره التي غيّبها الموت. "مرةً قال لي الطبيب إنها ستعيش عشرين سنة قادمة أو أكثر، وأنا الآن لا أريدها إلا لحظة.. لحظة واحدة، لا لتبكي عليّ، بل لأتحسّسها، لأشمّها..". أثناء عملي كنت أعاين امرأة تكابد نوبة ربو شديدة. فجأة، تسارعت أنفاسها، وتسارعت، وتوقفّت، وسكت قلبها. لم يكن الأمر واضحًا بالنسبة لزوجها الواقف عند رأسها، ملتصقًا بسرير الفحص، وهو يمسح بدشداشته العرق عن وجهها. ثم خلع كوفيته وعقاله وجعلهما لها وسادة. لكنها كانت ميتة، وقد تأكدت من ذلك بكل طرق الفحص. لمّا علم الرجل بموت زوجته، تجمد صوته، وظلّ يرمقني بوجهه كلّه.

"وأين أأخذها الآن؟". 

سألني. وأجبته، وحاولت أن تكون كلماتي لطيفة. ظلّت عيناه تنظران بثبات إلى نقطة في الغرفة كانت خلوًا من أي شيء. لم يصدّق أن امرأته الغائبة في غلالة جمالها، المنتشية بنورها الأعذب، سوف يكون مصيرها حفرة يطمرها التراب. بدا عليه أول الأمر كما لو كان مستغرقًا في حلم من أحلام اليقظة. ثم راح يهزّها برفق، ويناديها باسمها: 

"سَماْهِنْ! سَماهِنْ! استيقظي!". 

كان يحدّث غلائل روحها، والتي هي حيّة حتمًا، وكان صوته يشبه الصمت العميق، البعيد، البعيد جدًا. ثم فاجأني عندما راحت أصابعه تتلمس شفتيها، وخديها، وتمتد لعينيها المغمضتين، تفتحانهما. عينان سوداوان واسعتان تحدّقان الآن في اللا شيء. عندما ينتهي شيء ما فعلينا أن نفكر أن شيئًا ما سيبدأ، لكن الزهو بالحبّ العظيم الذي لا ينتهي يقدّم أفعالًا عظيمة. 

"هي أم أولادي يا دكتور. دخيلك، ساعدني!". 

قال الرجل بتوسلٍ، وكانت في عينيه نظرةً ولهى، وانتبهت إلى أن الشيب غزا في تلك اللحظة لحيته، كما أن أضواء النيون في غرفة الفحص خفتت بسبب النور الباهر الذي كان مصدره وجه (سماهن). كان الفصل هو آخر الخريف، ورائحة الأمطار المبكرة تملأ المكان، تخالطها رائحة الدمع والعَرَق. أستعير هنا، للتعبير عن حزنِ الرجل، ما يقوله عبد الكريم كاصد في رثاء زوجته:

((ستأتيك أمي بالنائحات

بالتعازيم والأدعية 

سيأتين في الريح كالساحرات

ويُرجعنَ ما ضاع منّي إليّ))

في مجموعته الشعرية يبدو كاصد متولّهًا بأم زياد حدّ الوله. شبّهها بالوردة والحديقة والفراشة والهواء والسماء والأميرة والغزالة والظلّ والطير والحجر الذي لا يغادر ضفته، أبدًا. كما أنها ضلعٌ من ضلوعه، وهي أهله كلهم:

((أنتِ أهلي

أبي

والعزيزةُ أمي

ومن غادروني من الأصدقاء))

انتهى كاصد من تأليف (حذام) في (2006)، لكن الزمن الذي يشفي أعمق الجروح لم يكن ذا فائدة للشاعر. في هذا العام، (2020)، طلع علينا عبد الكريم كاصد في ذكرى وفاة حذام بقصيدتين نشرهما على صفحته في الفيس بوك: 

((تسألني

حين أضعُ الأزهار على القبر،

وأُطرقُ:

"هل آتي معك؟"

عندئذ أمسك كفّيها الناحلتين

ونهبطُ منحدرًا،

أخضرَ،

فرحَين

إلى مقهىً

...))

هو مصمّمٌ على بعث حَذام حيّة بواسطة الشعر. إنه يستحضر الأمس عندما كانت حبيبته معه، ويستحضر اليوم، والشروق، والغروب، والنجوم، والنوم، والحلم، والذكريات، والحياة كلها. إنها الحياة البديلة التي نشترك مع الشاعر جميعًا ونحن نحياها بواسطة الشعر: 

((سلامٌ عليكِ

إذا ما انحنى شجرٌ في الغروبِ

وهبّتْ جنوبٌ

وناحتْ مطوّقة

وانجلى مطرٌ

واعتلى الليلَ ديكُ الصباح

ليوقظ كفّيك

تفتتحان النهار

سلامٌ عليكِ

سلامٌ عليكِ

سلامٌ))