خُطى في الضباب تلهث خلف زواج المُتعة والمِسيار

Tuesday 4th of August 2020 05:40:42 PM ,
العدد : 4741 (نسخة الكترونية)
الصفحة : عام ,

لندن: عدنان حسين أحمد

صدرت عن دار الدراويش للترجمة والنشر في بلغاريا "النوفيلا" الأولى التي تحمل عنوان "خُطىً في الضباب" للقاصة والشاعرة العراقية ذكرى لعيبي المقيمة في إمارة الشارقة حالياً.

وعلى الرغم من تطابق عنوان هذه الرواية القصيرة مع عنوان الفيلم الدرامي التشويقي Footsteps in the fog للمخرج الأمريكي آرثر لوبِن إلاّ أنّ ثيمة الرواية مختلفة تماماً عن ثيمة الفيلم ولا تربطها أي آصرة به سوى العنوان الذي جاء نتيجة لتوارد الخواطر ربما أو انطباق الحافر على الحافر كما يُقال.

ولابدّ من الإقرار بأنّ هذه النوفيلا Novella جريئة، وحسّاسة تعالج فيها ذكرى لعيبي ثيمة "زواج المتعة" وتداعياته على المرأة العربية المسلمة التي تتنازل فيه عن "حقوقها الشرعية في السكن والنفقة والميراث وإنجاب الأطفال". لا تهدف هذه الدراسة النقدية إلى الخوض في ثنائية الحلال والحرام وإنما ترصد ثيمة "الزواج المؤقت" أو "المنقطع" الذي يأخذ فيه الرجل وطره من المرأة مقابل ثمن مادي على وفق عقد مكتوب بحضور شاهدَين ينتهي بانتهاء الأجل المُتفَق عليه سلفاً.

تتكئ البنية المعمارية لهذه النوفيلا على أربع قصص رئيسة يتخذ بعضها من الحرب العراقية- الإيرانية، وحرب الخليج الثالثة خلفية لها. أما الثيمات الرئيسة فيمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع وهي: "زواج المتعة"، وعُرف اقتران الأخ بزوجة أخيه الشهيد، والعُنَّة الجنسيّة. وكما هو مُلاحَظ فإنها ثيمات إشكالية تصلح لأن تكون مادة لنوفيلا أو رواية طويلة.

لا تتأخر ذكرى لعيبي كثيراً قبل أن تزجّنا في مشكلة النص السردي التي تتفاقم شيئاً فشيئاً حتى تستعصي أو تجد طريقها إلى الحلّ خصوصاً وأنّ النوفيلا هي رواية شخصيات وأحداث ضحّت بالجانب الوصفي وغدت الأمكنة أشبه بالعمود الفقري المجرّد من شحمهِ ولحمه. وحينما تكون الشخصية في بغداد أو البصرة أو عمّان أو دبي فإنّ وجودها الفيزيقي لا يتعدى الوجود الافتراضي ولو أنها حفرت في المكان واشتغلت عليه لتغيّرَ واقع الحال وصبّ في مصلحة الفضاء السردي برمته.

توظِّف ذكرى لعيبي في روايتها الأولى ضمير المتكلم ليروي كل شخص قصته، بل أنّ هذا الضمير كان يناجي نفسه أحياناً، وهذا الانحسار أو التقوقع لا يخدم النَفَس السردي لأنّ الراوي يبدو وكأنه يبحث عن شيء ضائع أو يستمع إلى صدى صوته الذي يُطلقه في بئر عميقة.

سنتوقف عند شخصيتين رئيستين تناصفتا دور البطولة وهما أميرة والدكتور أحمد ونفحص معطيات كل شخصية على انفراد ومدى صلاحيتها، واستجابتها لاشتراطات الثيمة الرئيسة التي ينبغي أن تتردّد على مدار النص الروائي. فأميرة هي ابنة مدلّلة تأتي في المرتبة الثانية بين الأبناء السبعة، وهي تقارب "بنت المعيدي" في جمالها وهذا أول تعالق ميتاسردي في النوفيلا لكن الكاتبة لم تستثمرهُ بشكلٍ جيد فأهدرت هذه الفرصة الثمينة. تنطوي شخصية "أميرة" المأزومة على بعض التناقضات ومواطن الخلل في طريقة تفكيرها فهي مثقفة تُردِّد مقولات الأدباء والشعراء والفلاسفة لكنها "تؤمن بما يخطّهُ لها القدر، وما تقرأهُ لها العرّافة"، أي أنها تضع ثقتها المطلقة في الغيب، وتعتقد بأعمال السحر والشعوذة التي تُشير إلى أنّ هناك حبيبًا قادمًا، غير الزوج الذي تورطت فيه، سيقلب حياتها رأساً على عقب. تزوجت أميرة زواجاً تقليدياً من رجل يكبرها بعقد ونيّف من السنوات، وأنجبت له ولدَين. وما إن غزا العراقُ الكويتَ عام 1991حتى عاد زوجها الذي تعطُّ منه رائحة الموت والهزيمة وأخبرها بأنه يحبُ امرأة أخرى، ويريد أن يتزوّجها. وحينما سألته عن السبب قال:"لأني أراكِ نصف امرأة!". وبعد عدة أشهر جاء جدّ الأولاد بحيلة مُبتكرة ادعّى فيها أنّ أبا خالد يريد أن يُعيدها إلى عصمته، وأنه سيأخذ الولَدَين إلى أبيهما كي ينقذهما من مخاطر الحرب المشتعلة، وأنه سيبعث لها توكيلاً ليتمّ عقد مَهرها من جديد حتى تلتحق بهم لكنها انهارت حينما أدركت الخديعة التي تعرّضت لها.

أما الدكتور أحمد فقد أحبّ أميرة من دون عِلمها وهي شابة، وعاهد نفسه بأنه سيبقى يحبها مادام في العمر بقية، ولكنه عاود الاتصال بها حين عرف أنها قد انفصلت عن زوجها، ويريد أن يرتبط بها تحت "غطاء شرعيّ" ويتزوجها في السرّ زواجًا مؤقتًا، الأمر الذي أثار تساؤلات ممضّة في نفس أميرة التي يراها أغلى من الوطن ولكنه يريدها أن تكون "امرأة متعة" تلبّي رغباته الجنسية عند الحاجة.

تتطور الأحداث حينما تغادر أميرة إلى دبي وتعيش على مقربة من ولدَيها لكنها تتعرض إلى خدعة ثانية حيث تعْرِض عليها "هدى"، زميلتها في العمل فكرة الزواج من "وائل" ثم تكتشف أنها خدعة مدبّرة من قِبل زوجها للحطّ من شأنها وإجبارها على مغادرة البلد. وبينما كانت بغداد تُهرَس سرفات الدبابات الأمريكية في عام 2003 كانت أميرة تعاني الذلّ والهوان في زيجتها الثانية التي لم تتخلص منها إلاّ بشق الأنفس لتجد نفسها مطلّقة مرتين. وحتى الحاج جاسم، صديق والدها، الذي يزور دبي يريد أن ينزل في بيته الذي تسكنه أميرة مجانًا ردًا لجميل أسداه والدها إليه قبل سنوات، وحينما تعترض يقترح عليها "عقدًا مؤقتًا" لزواج عابر فتردّه بانزعاج شديد:"أنا لستُ سلعة رخيصة إلى هذا المستوى" وتغادر المنزل لتبحث عن سكنٍ جديد.

وعلى الرغم من أنّ القصص الثلاث الباقيات هي قصص ثانوية إلاّ أن بعضها يعزّز الثيمة الرئيسة. ففاطمة اللبنانية التي ارتبطت بمؤيد البصري المليح وتنتظر ليلة زفافها تتذكّر قصة الرجل العراقي المتزوج الذي تعلّقت به، ووافقت على أن ترتبط معه بعلاقة منقطعة وحينما شعرت بأنها حامل طلبت منه أن يرتبطا بشكل رسمي مُعلَن فرفض وأخبرها بأنها لم تعد على ذمته وأنه غادر هذا البلد إلى غير رجعة. وحينما أجهضت الجنين فقدت مأوى بيوضاتها بسبب خطأ طبّي أفضى إلى استئصال الرحم.

أما قصة "شامة" التي أحبّت سامي لكنّ أهلها رفضوه بسبب مكانته الاجتماعية المتدنيّة فهي تتمحور على الارتباط بزوجة الشهيد. فقد أجبرها الأهل على الزواج من أحد أقاربها لكنه استشهد في الحرب العراقية - الإيرانية، ووجدت نفسها أمام معضلة أخلاقية وهي وجوب زواجها من أخ الشهيد، وهو عُرف بات مُتبّعًا في تلك الحقبة. أما سامي فقد تزوّج من ابنة خالته ثأرًا لمشاعره المجروحة. وسوف يلتقي بشامة بعد 27 عامًا ويتفقان على الزواج لكن الاشتراطات التي وضعتها حالت دون ذلك فعاودَ الغياب من جديد. 

لا تقل القصة الرابعة غرابة عن سابقاتها، فقد تزوّجت "اليازيّة" من عبدالله لكنها اكتشفت في شهر العسل أنه "عُنّين" ووافقَ على إخلاء سبيلها شرط أن يقول "إنها لم تكن عذراء" كي يتستّر على "فضيحة" عجزه الجنسي.

يتواصل الدكتور أحمد مع أميرة عبر الرسائل النصيّة التي يؤكد فيها على حبّه الدائم لها لكن الزواج المُعلَن صعب التحقيق الآن، ويحضّها على الانتقال إلى دولة أوروبية للحصول على اللجوء الذي يوفِّر لها الضمان الصحي والاجتماعي. وبالفعل تصل إلى باريس، وتتجول مع أحمد في شارع الشانزليزيه، وتجلس معه في مقاهي الأرصفة، وتقبّله في مصاعد الفندق السريعة لكننا سرعان ما نكتشف أنها كانت تحلم وأنّ منبّه الساعة هو الذي أيقظها من هذا الحلم الجميل الذي أحسسنا من خلاله بروح المكان عكس الوجود الافتراضي في الأمكنة الأخرى التي أشرنا إليها سلفًا.

ورغم أنّ الرواية تنتهي نهاية سعيدة فيما يتعلّق بزواج فاطمة من مؤيد البصري إلاّ أن أميرة ظلّت تعيش في الوهم وتندب حظها العاثر متسائلة:"كيف سمحتُ لنفسي أن أتمادى بهذا الكمّ من المشاعر لرجلٍ لم يمنحني الأمان؟ وكيف سمحتُ لخطواتي أن تتعكزّ على عصا عمياء؟". لقد سارت أميرة على مدى الزمن الروائي في طريق ضبابي لا يفضي إلى جهة محددة فلاغرابة أن تسقط في خانق اليأس، ودوّامة الضياع.