بلورة الجمال في النص الشعري

Thursday 6th of August 2020 08:05:47 PM ,
العدد : 4743 (نسخة الكترونية)
الصفحة : عام ,

قراءة في قصيدة (إلّاك .. يا أنت) للشاعر حسن عبد الحميد

د. جاسم خلف الياس

يتفق الفلاسفة والنقاد الذين درسوا الاستاطيقيا على أن الثالوث المعياري للجمال يتجسد في (الانتظام / التناغم/ الكمال).

والجمال حسب رأي د. عبد الجبور نور هو علم يدرس طبيعة الإحساس الفني، وما يبتعث الجمال في شكل من أشكال الفن أو التعبير. وهنا نتساءل كيف استطاع الشاعر حسن عبد الحميد بلورة الجمال في قصيدته (إلّاك .. يا أنت) ؟

بداية نقول: لا خلاف على أن القول الشعري انفعالي وخاضع للمزاج الفردي، والدهشة التي يثيرها عبر تأمل هذا القول لا يمكنها أن تكون معياراً جمالياً ما لم يقترح النقد التحليلي تعالقه بالذائقة الجمالية المحبوة بشيء من الطراء المخملي، والحنين إلى اللطائف والنفائس الباطنية الأنيقة، بحيث يغدو الناقد رائياً جمالياً قبل كل شيء. كما لا خلاف على أن هذا الاقتراح لا يتعلق بالمحتوى (الموضوع) فحسب، وإنما بالتعبير (الشكل) الذي توفّره الاشتراطات الفنية، والتقانات التي تعزز الجذب الجمالي، وتنبه إلى أن هندسة المعنى وحدها لا تكفي في كشف جماليات النص ما لم يتم كشف طرائق صياغته. 

في النصوص الشعرية القصيرة، يعد التكثيف ضرورة في جذب القارئ إلى تفكيكها، والمغامرة في تأويل علاماتها، فالمكنونات اللغوية في هذه النصوص تعتمد على التعالق بين الوحدة اللغوية التي تحمل المعنى، والوحدات المجاورة لها في السياق، وعلى هذا الأساس نكون أمام ((تراتيل الروح التي تصدر من عالمٍ جواني معتَّق بغضارة الأحاسيس ، تضم في ثناياها حقائق كونية غاية في الانتظام، لا يستوعب مداركها خيال، كونها تفيض وتمنح ما يختلج به القلب وما تشتعل به المخيلة؛ لترسم صورة كامنة في نشيد من الكلمات؛ لتؤطر رسالة مرسلها كدهشة أو طرافة يفتتن بها سامعها أو متلقيها، هكذا هو جوهر الشعر)) (قراءة في قصيدة (شبيه الماء) للشاعرة السورية ميساء زيدان، د. الرحيم الغرباوي، صحيفة المثقف، ع 5056، الخميس، 9/ 7/ 2020)

على هذا المدخل المتواضع ستنهض معاينتنا النقدية للكتابة الشعرية عند الشاعر حسن عبد الحميد الصحفي والناقد التشكيلي الذي طعّم رؤيته الشعرية برؤى مضافة عبر اشتغاله في الحقلين المعرفيين اللذين ذكرتهما، كما ستنطلق هذه المعاينة من ثنائية المرأة / الوطن التي تمظهرت في قصائده بمغامراتها الجمالية وهو يستقرئ الراهن، ويعشق الوطن والإنسان، ويتعامل معهما بلغة شفيفة، وصور شعرية آسرة، ولا غرابة أن نجد انفعالاته الصاخبة يروّضها ذلك التلامس الشفيف بين هيف الروح وورقة الأسلوب، فهذا الشاعر يطعمنا الشعر على شكل قطعة حلوى، تذوب في أفواهنا، ولكن تبقى حلاوتها تتجاسر على كل طعم مر.

وقبل البدء في تحليل قصيدته (إلّاك .. يا أنت) لابد من الإشارة إلى أن نصوص حسن عبدالحميد الشعرية غاية في الكثافة الدلالية، وربما تصل تلك الكثافة إلى حد الغموض، ولا يمكن للقارئ الوصول إلى الدلالات التي توخاها إلا بعد معاناة تفاعلية، وقدرة تأويلية، تعمل على كشف العلاقات الخبيئة بين المبنى والمعنى / المعنى ومعنى المعنى. 

تشتغل مراوغة القصيدة الشعرية على أسلوب الاستثناء في كل من العنوان والمفتتح النصي، فيستثني الشاعر الضمير المتصل (كاف الخطاب) الذي لا يمكن تأويله تبعا لعدم علمنا بالمحذوف أو عدم كشفه قبل الدخول إلى المتن النصي، ثم يعزز الشاعر هذا المستثنى بتخصيص جديد بعد إضافة ياء النداء إلى الضمير المنفصل (أنت) الذي ما زال مجهولا أيضا، ويأتي هذا التعزيز عبر انوجاد ضميرين (متصل/ منفصل) لتوكيد الحالة الشعورية بكل أحاسيسه ومشاعره، أما المفتتح فيأتي نصا (بعديا) إن جاز التعبير، فجملة (ما عدا ... ذلك) توحي لنا بكلام سبق هذه الجملة، ولا يمكننا تأكيده اعتمادا على قرينة ما، ولكننا يمكننا أن نبتكر له تأويلات لا حصر لها، أي تتعدد هذه التأويلات بتعدد قراءات النص، يقول في المفتتح:

((ما عدا ... ذلكَ

أيَّ خيارٍ سأختارُ

لا يؤدّي إلا إليكَ))

لقد وضع الشاعر أمام ذاته خيارات كثيرة، ولكن أي خيار سيختاره الشاعر فهو بالتأكيد لن يؤدي إلى إلا ذلك المخصوص بالاستثناء، ولنتوقف هنا ونكمل قراءة القصيدة مرة أو مرتين لكي نكتشف هذا المستثنى، ونكمل المقاربة على أساس ما اكتشفناه. وهنا سيتقرر لنا أن المستثنى هو (الوطن) ، وسيشكل الانتماء الحميمي بين الوطن والشاعر هوية حب مطلق، يحملها في أقواله وأفعاله. وإذا كان كل نسق في النص يحيل إلى نسق آخر في النص الثقافي العام، فيسـتقر النص في سـياق المجتمع و التاريخ بطريقة اقتباسيه بحسـب رولان بارت، فإن كشف هذا الاستقرار سيأتي في سياق استباقي عند الشاعر، يدعونا للخروج بشكل مؤقت من العلاقات النحوية، و الدخول في العلاقات اللانحوية، ليخبرنا :

((سيشقى العمرُ منهمراً

يتلو صلاةَ الغيابِ

على رفاتِ حضورِكِ السخيِّ

ويرتِّلُ عندَ أعتابِ مثواهُ

رفيفَ أغانيهِ الشَّقيَّةِ))

وهنا نكتشف مدى قسوة هذا القول على النفس، والشاعر يجسد العمر في صورة حركية، تمارس قلقها في بنية الاستعارة التنافرية الحضور/ الغياب، لحظتها لن نجد سوى التراتيل والأغاني التي تمظهر ذلك الشفاء المؤجل إن لم نقل العاطل، فيسعى الشاعر إلى خلق المفارقة التي تثري فاعلية المشهد التصويري، لتقود القارئ بوصفه مشاركاً في المعنى إلى تمثلات النص والتساؤلات التي يثيرها، فضلا عن الحراك الدلالي. فـ(العراق) في رؤية الشاعر لم يعد يتحمل كل هذه القسوة والمرارة؛ لذا سيصلي عليه صلاة الغائب على الرغم من حضوره الذي لم يعد سوى رفات، وهنا يحرّك الشاعر دائرة الاغتراب النفسي، وربما المكاني أيضا، ولا يدعها تتوقف، بل تستمر في تراتيل الأغاني الشقية التي اعتاد عليها منذ زمن طويل. فتأتي أداة الجزم (لم) لنفي فعل يتعلق بالداخل النفسي للشاعر: 

((لم تكن أمانيه ...

قد أينعَتْ عِنباً

أو رُطباً جَنِيّاً

أو جَفاءَ طينٍ))

وإذا كان النص بنية دالَّة، أو هو عبارة عن نظام سيميائي، أو منظومة رمزية بالدرجة الأولى قبل كلِّ شيء (ينظر : نظرية النص، د. حسين الخمري22- 23.) فإن العلامات الثلاث (العنب، الرطب، الطين) تشترك في مشترك واحد هو الماء، بوصفه أصل الأشياء، وأصل الحياة ، وإذا أردنا أن نربط هذه العلامات التي شكلت منبع إدهاش يثري جماليات النص الشعري، ويسبغ عليه دلالات متعددة، نربطها بالعراق، سنجد عدم حضور الماء لفظة مباشرة، إلا أن حضوره المحايث بوصفه رمزاً مقدساً في الديانات والحضارات جميعها، جعلنا نؤثث هذا التأويل بالجفاف الذي يشبه حال العراق الآن.( ولا نريد اجترار وتكرار ما ذكر في القرآن والانجيل والتوراة والأساطير وكتب المتصوفة ...وغيرهم عن الماء بوصفه أصل الحياة) وإذا كان الجفاف الذي طال الواقع العراقي بكل التفاصيل التي أحرقته وأحالته إلى يبوسة، قد فرض سطوته بقوة، فإن الأماني التي هي أبسط ما يستطيع المرء ملامستها في وقت الشدائد، أصابتها اليبوسة أيضا، وذلك لوصول العراقي إلى حالة من اليأس المطبق والثقيل حداً في النفس، فالعنب والرطب والطين قد خلوا من الحياة التي تعتمد الماء في وجودها واستمراريتها. هل يتوقف الشاعر عند هذا الحد من الأسى أم سيواصل توصيفاته التي سلبت نظارة وطنه المتماهي معه؟ 

نعم سيستمر، ويتوغل الشجن الشعري في الروح أكثر، ويجتمعان الوطن والمرأة في كأس الثمالة، والتأسي، والتمني، وهنا تتمظهر لوعة الشاعر من هذين القطبين اللذين شكلا ثقلاً كبيراً في روحه التواقة لهما، 

((لكم كان الليل حزينا

حين تأسّاكِ كأساً 

ثملاً

وتمنّاكِ ... وطناً

بسجايا الربيعِ))

وهنا يتحول الضمير المتصل من (كاف الخطاب) للمذكر إلى (كاف الخطاب) للمؤنث، فيتماهى الشاعر هذه المرة مع الحبيبة التي يتصبّر بها في ليله الحزين، ويتمناها وطناً أخضر يسكنه ويلجأ إليه بوصفه ملاذاً شرعياً لكل أبنائه، وعلامة (الربيع) هنا تحيل إلى الخصب والنمو، فلا خصب بدون ماء، ولا نمو بدون ماء، فماذا يفعل الشاعر وهو يواجه هذا الجدب النفسي، والقحط الروحي الذي جعل الطبيعة لهما معادلاً موضوعياً؟ من الطبيعي أن تحاصر الإنسان المآسي والنكبات، وتعزله في دائرة الخمول والتقوقع، فلا يجد غير الأسئلة الوجودية التي يطرحها على نفسه دون بحث عن جواب:

((هل يصحُّ ...

أنْ تكونَ المراثي

مواقد...

والبلادُ شموعاً ؟!)) 

ثم يستفهم الشاعر عن تحول المرثي إلى مواقد، والبلاد إلى شموع، وهذا التحول الدلالي لم يكن بمعزل عن الواقع السياسي والإجتماعي العراقي الذي جعل الشاعر يعاني من الموت بكل تفاصيله إلى حد أصبح لدية محفزا لتحترق ذاته كما تحترق الشموع، وما هذا الاحتراق الذي يؤدي بالشموع إلى الفناء، إلا حرائق الوطن التي أدت به إلى الفناء؛ ونتيجة لهذا التعالق بين ما كان وما هو كائن يصرخ الشاعر بصوت داخلي موجوع: 

((تلك معادلةٌ ناقصةُ الحروفِ

تتيهُ بها المعاني

وتتبادلُ الأداورَ فيها

رهنَ تناقضِ الأرقامِ

بأوهامِ السِّنينِ))

ومتى ما كانت المعادلة ناقصة في أي قضية إنسانية، تتخلخل الموازين، ويتيه المعنى، وتتناقض كل الحسابات التي يعتمدها صاحب القضية، فيحدث تبادل الأدوار، وتتناقض الأرقام، وتتعلق الأوهام برهانات صعبة التحقيق. أي تشظٍ هذا الذي يحيل كل هدوء إلى ضجيج؟ وكل وحدة إلى تفتت؟ وعندما تصل الحال بالشاعر إلى هذا الحد، يقتنع قناعة كاملة، بأن الهزات النفسية التي تولد شحنات يعاني منها الشاعر سرعان ما يفرغها في نصوصه. وبسبب ما مرّ من أحداث ليست عابرة ، بل غائرة في النفس ولا يمكن تجاوزها؛ لجسامتها وشدة قسوتها وظلمها للإنسان العراقي، حتى أصبح الشاعر يحس بالعدمية تجاه وطنه:

((لا شيءَ يدلُّ على الوطنِ

المحنّى بالدُّموعِ

غيرُ أهدابِهِ المثقلاتِ بهِ))

ويعود مرة أخرى إلى أسلوب الاستثناء ليدخلها هذه المرة بـ(غير)، فالمستثنى هي الأهداب المثقلات بالدموع، والمستثنى منه الأشياء التي تدل على العدم الذي أصاب كل مقومات الوطن، فلا وطن بدون أشياء، ولا أشياء بدون وطن، وهذه معادلة صعبة حقا بين الوجود واللاوجود، وكل هذا ناتج عن تلاطم الأمواج النفسية الشرسة التي تحدث ضجيجاً وصخباً داخليين. ثم تستمر العلاقات النحوية في فاعليتها النصية، فيكرر بالاستثناء ذاته: 

((لا شىءَ ينأى بغيرِ الوداعِ

وبالتلويحِ سوى 

ذلك الجسرِ الخجولِ

من مماشي ... مشاةِ السُّوءِ

وقسوةِ النَّهرِ ...

على شبقِ النَّوارسِ للحياةِ))

في هذا المقطع كغيره من المقاطع، لا تشكل الصور إلا محفزات، نتجاوز بها رؤية العين المجردة إلى رؤيا تتطلب لغة تحفر في تلك الصور. فالتلويح باليد في هذا الموقع لم يحصل إلا لأمر مهول، يراه الشاعر بعد أن ترقبه وتابعه، ولهذا أحس لا شيء ينأى بغير وداع، ولكن كيف يودّع وطنه الذي أفنى عمره فيه؟ متذكرا ذلك (الجسر) الخجول الذي ينحني للعابرين ليقدم لهم خدمة، لا يستطيع الإنسان تقديم ما يشبه هذه الخدمة لأخيه الإنسان، وهو بهذا الفعل الترميزي لا يكتفي بوصف المشائين بالسوء، لنأخذ الصورة كما هي، بل يجعلنا ندخل في لعبة التأويل التي تقودنا إلى أبعد من ذلك، فالعابرون لا بد أن يرحلوا يوماً، ولا بد أن يلفظهم الجسر يوما ما، فهم الذين جعلوا الحياة قاسية إلى هذا الحد، حتى أن النهر لم يخل من قسوة يمارسها على شبق النوارس للحياة. وهذه صورة تكشف الرؤيا فيها رسالة إلى من جعلوا العراقي مخذولاً أمام نفسه والآخرين. ويعزز تحليلنا هذا المختتم الذي كان الشاعر فيه صريحاً حين يقول:

((على الحياةِ ...حين يكدِّرُها

غلاظُ القلوبِ ...

وتأبى أبداً ... أنْ تتوبْ

عن الحياةِ ... حياتِها

أو تنوبْ)).

لا .. والف لا ، والإنسان العراقي يبقى يعشق الحياة، وعلى الرغم من كل القسوة التي فرضها عليه الاحتلال وأذنابه، لا بد أن يعود للحياة. 

بكل هذه الصور المؤلمة، نفث حسن عبد الحميد مشاعر الحزن الانساني النبيل، وهو يجسد قيامة العراق، والتماهي معه في قول شعري كثيف، حاز على (الانتظام/ التناغم/ الكمال) فكان صوغا جماليا، تخلله التشكيل البصري عبر ترك كثيراً من الشواغر (...) بوصفها فجوات، يدعو القارئ لملء تلك الفجوات حسب نظريات القراءة، وآيزر تحديداً. 

(تعبر عن المسكوت عنه في النص الشعري، وأستنطاقه وسبر أغواره ودلالاته المسكوت عنها، ويشد القارىء إلى عوالمه المفتوحة المختزلة، ليملأ فراغاته ) .