المدى في ذكرى تأسيسها: رمزانية الأمل والعقلانية الصبورة ضد اليأس والظلام والرثاثة..!

Saturday 8th of August 2020 06:25:20 PM ,
العدد : 4744
الصفحة : آراء وأفكار ,

 فارس كمال نظمي

أظنُّ أن أي احتفاء بمناسبة ثقافية مميزة، يجب أن يكون مناسبة للمراجعة والمصارحة والكشف عن الصعوبات والتحديات، قبل أن يكون مناسبة للإشادة وتنزيه الذات. واليوم عندما نحتفي بسنوية جريدة المدى السابعة عشرة، فإن أسئلة استرجاعية عديدة ماثلة أمامي لا بد أن تفرض نفسها، تستدعي الحوار والمقاربة: 

- إلى أي مدى استطاعت هذه الجريدة أن تكون جسراً موضوعياً وإغنائياً بين الحدث اليومي وانعكاساته المعلوماتية والفكرية من جهة، وبين عقل المتلقّي بكافة أنماطه ومستوياته وتوجهاته من جهة أخرى؟

- وإلى أي مدى أسهمت هذه الجريدة في إشاعة قيم العقلانية الصبورة والحوار المهذب والتفكير الحر، وإبراز القضايا الإشكالية الأساسية في عراق اليوم كالحريات والعدالة الاجتماعية والاحتجاجات والفساد السياسي ومعضلات الديمقراطية الناشئة؟

- وإلى أي مدى انفتحت هذه الجريدة على مختلف التوجهات الفكرية المتناقضة، من أقلام ليبرالية وإسلامية ويسارية وقومية، محلية وعربية وأجنبية، ولأسماء بارزة وأخرى مغمورة، ضمن جدلية الرأي والرأي الآخر، دون انتقاص تسقيطي من أحد أو تشهير إسفافي بأي جهة؟

- وإلى أي مدى استوعبت هذه الجريدة في هيئات تحريرها المتعددة طوال هذه السنوات، خيرةَ الكفاءات الصحفية العراقية ممن يحسبون أولاً – وقبل أن يكونوا صحفيين- ضمنَ المثقفين العضويين البارزين، بصرف النظر عن توجهاتهم الفكرية المتباينة؟ وإلى مدى ظلت هذه الهيئات منضبطة بإيقاع الحرية الفكرية والموضوعية الرصدية والرسالة المجتمعية المستنيرة؟

- وإلى أي مدى استطاعات هذه الجريدة- بملاحقها اليومية أو الأسبوعية- أن تنتقل بالصحافة الخبرية اليومية إلى مستوى الصحافة المثقفة اليومية، عبر مقارباتها التفصيلية لأغلب التخصصات المعرفية والجمالية، بما جعلها "خبزاً" يومياً جذاباً ومقنعاً لأعداد غير محدودة من الباحثين عن غذاء ثقافي ومعلوماتي سهل الهضم وعالي القيمة، من المختصين ومن عامة الناس؟

- وبعد كل ذلك، إلى أي مدى حافظت هذه الجريدة على إيقاعها الهاديء الثابت طوال هذه السنوات المكتظة بالفوضى المجتمعية والعنف السياسي والتطرف الديني، دون أن تتحول إلى منبر للهجاء الأيديولوجي أو للتبشير الساذج أو للرثاثة الصحفية؟ 

هذه الأسئلة تشكّل محاور استفهامية واستقصائية يمكن مقاربتها بما قد يشكّل جزءاً من حوار مثمر لدى القائمين على جريدة المدى أو المهتمين بها، لتقييمها ونقدها، وصولاً إلى رؤية شاملة مستقرة لاستشراف مسيرتها الحالية والقادمة 

ولكن بوصفي كاتباً مستقلاً رافق الجريدة منذ تأسيسها تقريباً، معايشاً لكل هيئات تحريرها، ومحرراً لصفحتها النفسية لثلاث سنوات، وناشراً لمقالاتي في صفحاتها الفكرية لسنوات عديدة حتى اليوم، أستطيع الرد بالإيجاب –المريح والواثق- عن كل الأسئلة السابقة الذكر. إلا أن هذا الإيجاب لا يعني قبولاً إطلاقياً تاماً في كل الأحوال، بل قد يتضمن تحفظاً هنا أو مؤاخذة هناك، فالتقييم يؤخذ بإجماله الإيجابي لا بتفصيلاته النقدية المتعددة، وهي انتقادات يمكن طرحها في مقام آخر. 

إن وجود جريدة المدى واستمرارها الدؤوب والمثابر والاحترافي والرسالي وسط سنوات القحط الثقافي والصحافة غير المحترفة والرثاثة الدولتية والمجتمعية، يمثل نضالاً وطنياً يومياً محموماً، وقفَ – برفقة قوى أخرى عديدة- بالضد من ثقافة التجهيل الفكري والتجويف الروحي واليأس السياسي التي أشاعتها "الأسلمة السياسية" المصابة بداء "احتكار" الحقيقة و"القداسة" المزيفة. ولعل ملحق "الاحتجاج" الذي دأبت الجريدة على إصداره طوال شهور الحراك الثوري بعد تشرين الأول 2019، سيبقى مرجعاً فريداً لباحثي العلوم السياسية والاجتماعية، فضلاً عن كونه وثيقة نادرة من وثائق الوطنية العراقية الصاعدة، بعد انحسار الهيمنة الإسلاموية وأفولها.

أنا من بين من يصعب عليهم جداً تصور المشهد العراقي –بكلياته الجدلية- دون جريدة مثقفة كجريدة المدى، وفرت حاضنة آمنة لأعداد غير محدودة من الكتّاب المرموقين الباحثين عن فضاء حر يوقّر خصوصياتهم دون قسر فكري أو إسفاف مهني. والأهم من ذلك أنها وفرت رمزانية شديدة الأهمية لا تخطئها العين، في أنها أبقت الظلام العراقي الطويل حقيقة منقوصة دوماً، إذ ظلَّ ضياءُها اليومي قادراً على تذكيرنا أن مجرد عدم التسليم باليأس –رغم شدته وشموليته- هو بحد ذاته عدمُ تفريطٍ بفضيلة الأمل. فالمدى ببساطة ماكنة ثقافية يومية أسهمت وتسهم بصنع هاجس الأمل الذي ما برح يتراكم هناك... في كل المستقبل.