عبد الخالق الركابي.. استعادة لحظات الحنين

Saturday 12th of September 2020 06:21:24 PM ,
العدد : 4768
الصفحة : عام ,

ناجح المعموري

- 3 -

وأول غواية في هذه الرواية والتي تكررت مرّات عديدة ، هي بدئية عنفوان الأنثى الصغيرة التي لم تعد قادرة على قمع حسياتها وكبح فوران جسدها الذي لا يثير الشبهات والدليل على ذلك ناما معاً على سرير واحد .

لكن هذا الواحد ، الاختلاء مع الثنائي طاقة تفعيل وتبدّى للقراءة بانها الفاعل الأنثوي الذي امتد بين فخذي الراوي / هل جاءت استجابتي السريعة انسجاماً مع طبيعتي التي لازمتني منذ صباي بالحرص على ألا أرد لبتول طلباً . أم وفاء لتلك اليد الدافئة ــ يد بتول نفسها ــ التي تسللت ، ذات ليل بعيد ، في غفلة من النائمين لتوقظ في جسد الصبي الذي كنته نوازع رجولة مبكرة . لا أعلم فالأمران باتا واحداً ، لا فكاك لي منهما حتى آخر لحظة من حياتي كما يبدو / عبد الخالق الركابي / ما لم تمسسه النار / ص 11//

اكتشف الراوي لذائذ ارتعاشات الجسد الأنثوي الذي لم يفرط بكواتم أسرار ، بل تعرف على أن اليد فاعل حسي ، وكان لليد حضور فني بدئي من خلال الرسوم والإيقونات مع اقتران واضح بسلطة الآلهة عبر العصا ، رموزاً بسلطة الذكورة وبطرياركيتها . واليد الأولى هي التي تعرفت الأرض وزاولت معها اتصالاً إدخالياً موظفة إصبعها الأوسط لإيجاد عمق تغرس به البذور ومن هنا نشأت عتبة الادخال وصعود الخصوبة . 

مزاولة بتول للاتصال مع الراوي الذي ظل بلا كنية ، وأظن بأن مقترح عبد الخالق الركابي تمثيل لمهاراته المميزة للحكوائي . فما دام الراوي سارداً تكفيه هذه الصفة ( حاولت أن اقتحمها بلساني لولا أنها تراجعت خطوة الى الوراء , وعلى ضوء نجم قادم من مجرة ما لمحتُ لمعان الدموع وهي تسيل على خذيها ..... فعقب ذلك الحدث المزلزل الذي وقع بيني وبينها ليلاً جفلتُ ، صباح اليوم التالي على ضجتها وهي ترفع الأغطية والأفرشة من حولي ، حتى إذا ما دنت مني سحبت غطائي بعنف مخاطبة إياي بغضب مكتوم : 

ــ انهض . فقد قارب النهار على الانتصاف 

التعرف على الجديد الذي ، وتكشف مخفيات الأنثى التي تعرفها هي وتعطيها للمذكر تعلماً . كل هذه الممنوحات صعبة ، قاسية ، فيها فوران ، وعصيان ، وتدفق ، إنه زلزال ليلي .

تعاونت الرموز مع بعضها وتعظمت بالشهوة والغطرسة التي تسامت بها الأنثى وأبلغت أسطورتها البدئية الأولى بواسطة يدها . ولقد عرف الإله أنليل المسؤول التنفيذي في مجلس الآلهة العراقي وعلم الكائن العمل ومنحه قداسة الوظيفة المميزة لليد وهيأ له الفأس ويلاحظ بأن الممنوح رمز جنسي أيضاً ، فاليد طاقة حسية وتثير ملامستها مخزونات الذكورة واكد عليها المفكر المعروف ليفناس ، وأكد على أن المصافحة أو الدغدغة إدخال لذائذي ونلاحظ التحولات المتحققة على اليومي .

قال د . علي حرب : يعرف الإنسان بوصفه عقلاً عارفاً للرمز . ويرمز ويتكلم والرمز يحيل دوماً الى الغائب ، كما أن التصور الكلي يحيل الى الماوراء ، أي عوالم أخرى . يقرأ من خلالها وجوده . إذ للكلام بعده الدلالي وبالدلالة يعطي البشر معين ولوجودهم كما يهبون الاشياء والكائنات معناها ايضا ... 

فالإنسان خالق الدلالات ومولد المعاني . والمعنى يفترض وجود ذات ويحيل الى المتعالي ، أما المواضيع فهي صماء ، ووحدها الذوات المتعاليات قادرة على الخروج من أسر التفاهة والرتابة الى افق الدلالة وثرائها ورحابتها / د. علي حرب / لعبة المعنى / المركز الثقافي العربي / بيروت / 1991/ص108//

تحولت يد الأنثى فضاء أنثوياً حاضناً لقضيب الشاب وادخلته بمهارة بين أصابعها ، حتى فقد كل منهما سيطرته وتفجرت الحواس واشتعلت اللذائذ وعرف كل منهما جوهر الآخر وهو يمنح كل ما يستطيع عليه وكانت بتول هي التي تعطي ولا تبخل . واعتقد بأن اسكندر بيك تنبه لشبوبة ولده القوية فأخذه للحمام وهو المكان الكاشف والفاضح وما يعلنه عن الرجال أكثر خطورة . ورأى على جدران الحمام رسوماً عديدة وكان الطاووس هو الملفت لناظريه .

الطاووس خطاب المباشر لولده لأن الطاووس رمز الخيلاء والمبشر واقتران الطاووس مع الاله ديانيسوس وباخوس وفينوس ، فهو الطائر المقدس وهو ناشر لذيله ــ رمزه الذكري ــ متباهياً به مثلما هو رمز وثني للأبدية ، ولأن عبد الخالق الركابي يعرف جيداً دلالات الطاووس الرمزية فقد اختصر الإشارة له وهما يدخلان الحمام والوحدات المغرية غير المعروفة بالتداول الواسع . ولعل أكثرها حضوراً وطاقة بالتداول هو العشب او اليباس غير المعروف بالتواصل بين الافراد والجماعات .

الأنثى جسد حاضر ، يعيش الحياة لحظة بلحظة ، وهي الكائن العارف لمكملاته والمدرك لاحتياجاته ، لهذا دائماً ما تتحول سرديتها لحظة منتظرة ، تريد الوصول إليها ، حتى تستكمل الحياة والحلم / الأحلام المكملة لها . والإشكالية التي تواجه المرأة هي قهريات الذكورة التي لا تعرف من الأنثى غير جسدها المانح وعندما يتعطل مؤقتاً الى استراحة من أجل استخلاص نتائج مطلوبة لمستقبلها ، يتخلخل المذكر المشبع بالتوتر .

الإثارة لحظية في الحضور الأنثوي ، البث منها نشط وقوي إشارة واحدة تكفي إنجاز مهمة كبرى بين طرفين ، كل منهما يريد تحقق حلم منتظر . والمرأة كلها حيويات ماثلة ، مرئية بكثرتها ، وحتى اللامرئي منظور له بواسطة الخفاء ورؤيته من خلال التصور ، لذا فان الأنثى في رواية عبد الخالق الركابي هيجان وعاصفة لا يتوقع أحد ، حتى هي ، لأن الرغبة آتية اقتحامية وهذا ما عبر عنه الركابي في ص 106ــ 107//

يولد الخوف نوعاً من الحنين للاماكن الأولى ، كي تولد لوذاً وحماية للإنسان ودائماً ما يكون هذا الخلاص مستدعى في اللحظات الصعبة والمعقدة ، وهذا ما فكر به الراوي لحظة الغزو الاميركي واستعادة ذاكرة بدرة القديمة ، الرحم الأمومي ، لأنها الأمّ الأولى وهي الأسطورة التي ظلت متباهية بمن خلقتهم وتباهت بهم . لذا كانت العودة الى مدينة بدرة ، استعادة لحظات الحنين واستذكار الأفراد والجماعات والتعايش مع ما كان وما سيتوضح مرة جديدة . لذا كان وموقف الراوي وهو يقترح العودة الى بدرة بهجة بادية اكثر من موقف الزوجة او البنات ، ولا ادري لم غيّب عبد الخالق الركابي عائلته بالكامل من خلال السرد .... الصمت هو السائد فقط ، السيادة في سرديات العودة نهوض المرويات ومعاينة الأنهار والحدائق والأشجار وثمارها . وهي دلالات رامزة على دائمية الحياة في الفضاءات الخارجية وموت ما هو كائن وحي في المدن الكبيرة ، مثلما حصل وسط بغداد في مستشفى الشماعية والموّات الحي الذي تتعايش معه مستشفى الشماعية كل ما موجود فيها حي ، لكنه مجنون ، والموت يستولد الاستقرار للمريض ولعائلته والجنون تعطل وفقدان للسيرورة ، وغزو اليباس في حديقة المستشفى واضطرار غافل ابو الحشيش لاستعمال منجله وحش كل ما هو يابس ، يعني الدفن والسعي لاستعادة الخصوبة والتجدد والانبعاث . كانت تلك الأصابع لا تكف عن تحركها جيئة وذهاباً يرافقها صدور همس مبهم ... كلمات مصحوبة بكلمات مصحوبة بنشيج مكتوم . وفجأة احسستُ بانفجار ما يحدث في احشائي . انفجار مصحوباً بلذة محمومة لم أتذوق مثلها من قبل قط ، ومعها انطفأ كل شيء وقد امتلأت بشعور اشمئزاز مفاجئ أدى بي الى إبعاد تلك الأصابع المصرّة على الإمساك بصيدها ... وكنت على استعداد لأصرخ هذه المرّة بأعلى صوتي لا بسبب فأرة ، بل بسبب أنثى تكبرني بثلاث أو أربع سنوات ، أنا الذي كنت في حدود الثالثة عشرة من عمري ــ وقد اغتالت طفولتي الى الأبد / ص107//

بتول استعادت ما فقدته بالاخصاء البدئي ، عارفة ، جمرتها ساكنة ، تحت الرماد ، حانت فرصة الدنو الى الطفولة الجاهلة وغير المدركة ، عشتار بدرة ، أيقظت فأرتها وايقظت فرجها السري وابتدأت الادخال الذي استنجد بكل أساطير الجنس المقدس ، وثارت كل كوامن الجسد الأنثوي . وخسر طفولته التي كانت ساذجة .. بريئة . ومنحته عشتار المشتعلة عقلاً لم يألفه من قبل ، وقادته الى كشوف اللذائذ والشهوات باعتبارها خزان لأساطير الآلهة عشتار التي جابت بثقل خزانها جغرافيات العالم . لقد منحته خبرة وثقافة وجعلته كائناً تعرف على ما هو معروف سابقاً ، على الأصابع التي احتضنت المهاب المتوج بما استولده في مكامن الأنثى . إنها إحدى أهم أساطير " ما لم تمسسه النار " والعنونة ليست منعزلة عن مضموم الأنثى الذي يحوز شرارته ويصعد لهبه ، لكنه يقاوم النار ويصمد أمامها . فلم تمسسه النار .