مسيرة ذروة الوباء: بين الغطرسة والقدريّة

Wednesday 16th of September 2020 07:18:06 PM ,
العدد : 4772
الصفحة : آراء وأفكار ,

 برتراند كيفر ترجمة : عدوية الهلالي

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، اعتدنا في الغرب أن نتعايش بهدوء مع الحاضر ، لكنه ، ومع ظهور وباء كوفيد -19 لم يعد الأمر ممكناً ، بسبب نشوء عدم اليقين الذي حطم نظامنا المعتاد، وأربك بالتالي كل أفكار المستقبل وأعادنا إلى الواقع لنشعر بهشاشة وجودنا ..

في محاولة فاشلة للسيطرة على الأمر ، قام هذا الفايروس بتفجير فقاعة إيماننا بقدرتنا التكنولوجية المطلقة ، فحتى بضعة شهور مضت ، كان الذكاء الاصطناعي الخارق يرسم آفاقنا المستقبلية وكان مايمر بنا هو مجرد تطورات وتغييرات وخلق وسقوط أساطير وحضارات تحت تأثير أحداث غير متوقعة ، وكان طموحنا الوحيد هو إنهاء مالايمكن التنبؤ به في الحياة ، أما اليوم فكل مانفكر فيه هو أن نظل أحياء !!

لقد أشدنا بقوة التكنولوجيا والعلوم الحيوية والمعلوماتية وعززناها لدرجة أننا توصلنا إلى الاعتقاد بأن العلم يمكن أن يحمينا من المخاوف المعدية القديمة.ففي اوائل الثمانينيات ، كان الطب يتقدم واعتقدنا إن المضادات الحيوية يمكن أن تقتل كل انواع البكتيريا واللقاحات يمكن أن تقتل الفايروسات بسرعة، اما بالنسبة للطفيليات والفطريات والحشرات ، فسنجد لها بعض الأسلحة الفتاكة بالتأكيد ..لقد صورت لنا غطرستنا أن البشر يمكن أن يخضع العالم ويسيطر على الأحياء وإن التكنولوجيا والقوة البيولوجية لابد وأن تجد حلولاً والمستقبل لابد وأن يكون أفضل، والدليل على ذلك هو القضاء على العديد من الأمراض المعدية ..

ففي عام 1981 ، أغرق فايروس الايدز العالم في رعب من العدوى ، واستغرق الأمر اكثر من عشر سنوات وملايين الوفيات للعثور على علاج فعال ، ولا يزال اللقاح بعيد المنال الآن. في الوقت نفسه تقريباً ، تُظهر أبحاث مضادات الميكروبات علامات الضعف. فمن الصعب العثور على مضادات حيوية جديدة ، حيث تتحور البكتيريا وتتكيف وتضاعف المقاومة. عند استخدامها بشكل عشوائي. ويبدو أن لا أحد يهتم بينما تتعاقب الأوبئة ، وتتوالى الهجمات على النظم البيئية الحيوانية: السارس ، ، غرب النيل ، شيكونغونيا ، حمى الضنك ، زيكا ، إيبولا ... وأخيراً سارس- CoV- 2، فيسود القلق بين المختصين ، وتسارع الدول للتخلي عن بعض خططها تحسبا للوباء ، ولكن ، وما أن يتم القضاء على تفشي المرض حتى يتم نسيانه ،للتفكير في أمر أكثر جدية وأكثر تقنية ونشوة.

أي مكان يبقى للعلم ، في هذه الأوقات التي تعود فيها الفيروسات إلى واجهة المسرح العالمي؟ فالعديد من الأمراض التي يُعتقد أنها ناتجة عن خلل في وظائف الجسم هي في الواقع معدية..ويبقى هنا السؤال الذي يطرحه السكان والحكومات : " هل سنفوز في الحرب ضد فايروس كوفيد 19 ؟" أم أن علينا أن نتعلم كيف نتعايش معه بعد أن إنهار الأمل في انتصار الحرب على فيروس واحد ..

بالطبع ، الوباء الحالي يختلف عن الوباء في القرون الأخرى لأن أسبابه معروفة لنا. وقد تكون مواجهته التي تتم بوسائل فائقة الحداثة قائمة على العلم الذي أخذ مكان المعتقدات السحرية والدينية في العصور الوسطى ، مع العديد من الأخبار المزيفة والتخيلات المقلقة والخطيرة والتي تعكس مخاوف البشر العميقة بشأن المجهول والموت ..فقد تم إلغاء العقل بسبب الوباء وحلت محله المشاعر والآراء الناتجة عنها ، في الوقت الذي ينبغي فيه أن نعالج بجدية القضايا الحيوية التي تنتظرنا وأن نتصرف عقلانياً ونبني المستقبل باستخدام الأدوات القليلة المتاحة ..

في الولايات المتحدة – على سبيل المثال – يقول ( العبقري ) ترامب إن منظمة الصحة العالمية مخطئة، وأن مركز السيطرة على الأمراض مخطئ ، وأنه يعلم أن معدل الوفيات من الفايروس منخفض جدًا وأن بلاده قد خرجت بالفعل من مرحلة الخطر.لكنها غطرسة أيضا تنم عن هشاشة في حياتنا وحضارتنا وشعورنا المبالغ فيه بالتفوق فقد أثبتت الرأسمالية الحديثة أنها غير مرنة ، أو مبتكرة ، لدرجة أنها لا تمتلك سوى صحة البشر وحتى التضحية بهم كعامل للتكيف. وقد تم اختراع هذه العقيدة في أوروبا في القرن الثامن عشر ، وكانت فعالة جداً في البداية ، ثم أصبحت مسببة للأمراض بشكل متزايد ، وانتشرت في جميع أنحاء العالم إلى درجة تدمير النظم البيئية والتطفل على الكوكب. مثلما يفعل فيروس كورونا معنا. ونبدو أمامها عاجزين أكثر مما أمامه.

بعبارة أخرى ، تبقى الليبرالية الاقتصادية هي اليد الخفية للسوق – ونبقى نحن عبيدًا لقوة الاقتصاد القائم على الأداء والناتج المحلي الإجمالي فقط ، فنحن نفتقر إلى الاستقلالية والقدرة على المبادرة للخروج مما يبدو وكأنه شكل من أشكال اليأس المتفق عليه. ومع ذلك ، لا شيء يبدو ضروريًا للتساؤل بعمق عن المبادئ التي تنظم المجتمع.

لابد أن يتغير المجتمع ونحن مشلولون. لماذا هذه الحتمية المستمدة من عصر آخر؟ وهذا الخوف مما يهدد بقاءنا؟ هناك شيء ربما مثل فشل برنامج ما بعد الحداثة، إذ كان ينبغي أن تكون الديمقراطيات وحقوق الإنسان والثقافة والعلوم أدوات في خدمة الحرية والعدل. ولكن يتضح أكثر فأكثر أن هذا كله ، في شكله الحالي ، قد فشل. ليس لدينا خيار آخر سوى إعادة التفكير في بنيتهم المعمارية والتشكيك في الأسس مرة أخرى. أي نوع من الحياة نريد أن نحياها؟ ضمن أي قيم مجتمعية؟ بأية أبعاد بشرية ، وأية مخاطر ، وأي انفتاح؟

لا يتعلق الأمرإذن بالتغلب على عدم اليقين، فنحن دائماً ، يجب أن نفضل الشك على تلفيق الحقيقة. لا توجد ضمانات للمستقبل. في مواجهة الوباء ، ولا يوجد سوى المعرفة والمنطق والقيم والقرارات التي تمت مناقشتها. وباعتبارها البوصلة الوحيدة ، فهي وعي مقلق وغير قدري لهشاشتنا الجماعية ..