إطلالة على الأدب الروسي المعاصر

Tuesday 13th of October 2020 06:53:54 PM ,
العدد : 4789
الصفحة : عام ,

عبد الله حبه

طلب مني ناشر لبناني ترجمة رواية لكاتب روسي "معاصر" بإعتبارها من الروايات الحائزة على عدة جوائز .

وقد رفضت طلبه لأنني أفضل ترجمة الأدب الكلاسيكي الروسي المجهول حتى الآن لدى القارئ العربي. أنا أجد متعة في ترجمة أعمال بوشكين وجوجول وتشيخوف وسالطيكوف- شيدرين وبونين وبولجاكوف وشولوخوف وراسبوتين وأستافييف وجنكيز أيتماتوف وسولجينتسين، وليس في ترجمة اوليتسكايا وديمتري بيكوف(لقبه الأصلي زيلبترود) وجوزيل يحينا ودانتسوفا وغيرهم من الكتاب الذين تمنح لهم جوائز " كتاب السنة " و"الكتاب الكبير " و"أقرأ روسيا" وهلمجرا .

ولا تعرف الفترة الزمنية التي يبدأ بها إنتماء الكاتب الى "المعاصر". فهل إنها قبل ثلاثين أو أربعين عاماً أو فترة أبعد من ذلك ؟ أنا أعتقد إنها فترة ما بعد إنتهاء السلطة السوفيتية وقيام سلطة الرأسماليين في عام 1990 . عندئذ ظهر مجتمع قائم على أيديولوجية السوق ونشوء طبقة أصحاب المليارات الذين يعيش أكثرهم خارج روسيا ويجنون الأرباح الطائلة من استثمار موارد البلاد الطبيعية.وكما إعترف يجور جايدار نائب رئيس وزراء روسيا بعد سقوط النظام السوفيتي :"نحن شيدنا أقتصاد اللصوصية" . وكان لابد أن ينعكس هذا الوضع على إبداع الأديب الذي يحاول ، ويا للأسف ،التكيف مع متطلبات السوق السلبية في غالب الأحيان.

والغريب أن الناشرين العرب يصفون جميع الكتاب الناطقين بالروسية بأنهم" روس" ويمثلون الأدب الروسي . أما في الواقع فإنهم من الروس والأوكرانيين واليهود والتتار والإبخاز والشيشان وغيرهم من أبناء الجمهوريات والأقاليم الروسية. ولابد من الجزم بأن كل واحد منهم يعكس في نتاجاته تقاليد وأفكار المجتمع الذي ينتمي إليه.فقد كانت جميع روايات أيتماتوف عن الحياة في قيرغيزيا ، وكذلك تناولت روايات فاضل اسكندر أوضاع المجتمع الأبخازي ، وتناولت روايات كانطا إبراهيموف مشاكل المجتمع الشيشاني ، أما الكتاب اليهود فهم الأكثر نشاطاً ، كما هو الحال في الدول الأخرى ، مثل اوليتسكايا وبيكوف وريباكوف وجالكينا وفولوس وزامشيف ودينا روبينا -القاطنة في اسرائيل بينما تكتب عن الحياة في روسيا او خارج الزمان والمكان(اغلبهم يستخدم الأسماء المستعارة الروسية) فهم يطرحون رؤيتهم لأوضاع المجتمع الروسي ، والرواية الأخيرة لأوليتسكايا "حول جسد الروح" تتناول حياة المومسات والسحاقيات، بينما تتناول رواية زامشيف الحائزة على جائزة "كتاب السنة " لهذا العام حياة ومعاناة الموسيقيين اليهود في الفترة السوفيتية. ولهذا تجد مثل هذه الروايات صدى كبيرا لها لدى الناشرين في أوروبا وأميركا. طبعا لا يمكن القول إنهم جميعاً ينحون هذا المنحى ،ويوجد بين الكتاب من غير الروس مبدعون قديرون. لكن الإنتماء القومي يمارس دوره بلا شك في تكوين رؤية الكاتب لأوضاع مجتمعه بحكم الإنتماء القومي الضيق. إنها تختلف تماماً عن رؤية الكتاب الروس لقضايا مجتمعهم، وتمثل أعمالهم الأدب الروسي الحقيقي من حيث اللغة والأسلوب والموضوع. ويمكن نسب كل واحد من هؤلاء الكتاب من مختلف القوميات الى مرتبة الدرجة الأولى أو الثانية أو الثالثة إنطلاقاً من المقاييس الأدبية الجادة وليس من إعتبارات السوق .فالسوق عادة يروج للأدب الرخيص الموجّه الى الدهماء التي تصبو الى التسلية والمتعة .لأن القارئ العادي يقدم على شراء الروايات البوليسية الرخيصة التي يكتبها بكثرة الكاتب اليهودي الجورجي بوريس أكونين ( علماً إنه يكتب بإسماء مستعارة عديدة لكن إسمه الأصلي جريجوري تشخارتيشفيلي) أو الروايات النسائية المبتذلة لداريا دانتسوفا.إن إعتبارات السوق ونشوء مجتمع طبقي بعد تفكك الاتحاد السوفيتي قادت الى ظواهر تفسخ إجتماعي ومنها ضعف الأواصر العائلية وعدم رغبة شريحة من الشباب في الزواج الشرعي والدعاية الى الشذوذ الجنسي في مهرجانات كالتي تقام في لندن وامستردام وبرلين وغيرها من مدن غربي أوروبا وأميركا.فهذا هو حال العلاقات الاجتماعية في غالبية المجتمعات الغربية. 

والحق يقال إن الأدب الروسي المترجم الى اللغة العربية يفقد لدى الترجمة الكثير من قيمته الحقيقية لأنه غالباً ما كان يترجم وحتى الآن من لغات وسيطة ، مما يؤدي الى كثير من التشوهات والتحريفات في النص الأصلي.وقلت للناشر اللبناني الذي عرض علي نشر الرواية المذكورة آنفا إن موضوع الرواية لا يتعلق بواقع المجتمع الروسي وأن إبطالها خارج الزمان والمكان ، زد على ذلك إن المؤلف يلجأ الى عبارات بذيئة ويصف مشاهد الجنس حسب العادة المتبعة في الموضة الحالية في أعمال بعض المؤلفين الغربيين. وأشار الناشر اللبناني الى أنهم يحذفون أو يغيرون عادة مثل هذه المقاطع . وهنا تطرح مسألة الرقابة . فالأدب الروسي تخلص من الرقابة القيصرية ومن ثم الرقابة السوفيتية ويقع الآن تحت رحمة رقابة الناشرين الروس أو الأجانب. فالناشر العربي مثلا يقرر أية الروايات تنشر إنطلاقا من إعتبارات السوق والربحية وليس من أعتبارات القيمة الأدبية . وفي الواقع أن الفوضى تسود لهذا السبب قطاع النشر في العالم العربي .فلا يعرف ما هو الأدب الجيد الروسي . ويبدو إن إعتبارات السوق أيضا جعلت "النادي الثقافي العربي" في القاهرة يسرق ترجمة الزميل خيري الضامن لرسائل دوستويفسكي ويعيد نشرها بزعم أن المترجم هو سامي الدروبي. بينما نشرت الدار العالمية للكتب والنشر في القاهرة ملحمة ليف تولستوي "الحرب والسلام" التي ترجمها بتصرف إبراهيم جلال من الإنكليزية، وسمح لنفسه بإختصار المجلدات الأربعة للمؤلف في مجلد واحد . وحذف المترجم أهم أحداث الرواية التي تعكس أفكار الكاتب الروسي العظيم.

أما بصدد منح الجوائز الى هذا المؤلف أو ذاك التي يتخذها الناشر العربي كحجة ، فغالباً ما ينطلق الحكم على إبداع المؤلف ليس من قيمة العمل الفنية ، بل من إعتبارات أخرى لا علاقة لها بالإبداع. ويكفي القول أن جائزة نوبل غالباً ما كانت تمنح الى الكتاب الروس لإعتبارات سياسية وغيرها . وبعض الكتاب الحائزين عليها لا يمكن مقارنتهم بعمالقة الأدب الروسي مثل ليف تولستوي الذي لم تمنح له الجائزة.وأذكر على سبيل المثال الصحفية سفيتلانا اليكسييفتش التي لا يمكن وصفها ب"الأديبة". بل إنها صحفية تناولت في تحقيقاتها الصحفية مواضيع حساسة مثل المعتقلات الستالينية والحرب في افغانستان وغيرها.وتهدف في كتبها الى إستدرار دموع القارئ على مآسي فترات عصيبة من تاريخ روسيا.إنها سايرت الموضة في الصحافة وكذلك في الأدب بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في تصوير كل شئ في الماضي بصبغة سوداء.وينطبق القول ذاته على الجوائز التي تمنح من قبل بعض المنظمات والهيئات الى هذا الكتاب أو ذاك. وبهذه المناسبة لا بد من الإشارة الى أن الناشرين الغربيين يهمهم نشر كل ما يتعلق بالصفحات السود من تاريخ روسيا . وتنشر في الدول الغربية على نطاق واسع روايات مثل رواية " آل بتروف والإنفلونزا وحولها" التي رشحها الناشر اللبناني للترجمة وتتناول يوميات من حياة سكير وزوجته المطلقة . ويجد فيها الناشر الغربي إيحاء بأن الشعب الروسي هو جمهرة من الصعاليك والسكارى .إنها النظرة السادة في الغرب عن روسيا ، أو كما قال لي صحفي أنجليزي " كيف يمكن أن تعيش مع هؤلاء البرابرة". وجدير بالذكر أن بعض الناشرين العرب يتطلعون الى ما تنشره دور النشر الغربية ، وما يروج له الوكلاء القاطنون في برلين وباريس ولندن ،ويفكرون بدورهم في ترجمتها الى اللغة العربية بإعتبارها من نفائس الأعمال الأدبية.

لقد شارك في معرض الكتاب الدولي، الذي أقيم بموسكو في شهر أيلول الماضي تحت شعار دعم الكتاب والقراءة ،عدد من الكتاب المعاصرين مثل الكسي إيفانوف وفاسيلي افتشنكو وأندريه روبانوف وبافل باسينسكي ويفجيني فودولازكين واناستيا ستروكينا وداريا سيروفا ومكسيم زامشيف (رئيس تحرير صحيفة " ليتراتورنايا جازيتا" وحازت روايته " ضابط الإيقاع" على جائزة "كتاب العام") وغيرهم.إن أعمال بعضهم جيدة ولكن أكثرها سيئة من الناحية الفنية مع الأسف .والقارئ الروسي الذي يحترم نفسه لا يضع كتبهم على رفوف مكتبته الخاصة. ويمكن تصنيف بعض أعمال هؤلاء الأدباء بأنها من " الدرجة الثانية أو الثالثة" إن جاز القول. لكن المعرض لم يكشف عن شخصية أدبية لامعة حقاً من بين الأدباء المذكورين .ولا توجد بين أعمالهم نفائس أدبية في مستوى "المعطف" لجوجول أو " الحرب والسلام " لتولستوي أو "الدون الهادئ" لشولوخوف أو "المعلم ومرجريتا" لبولجاكوف. وسيظهر المستقبل أي واحد من الكتاب المعاصرين سيبقى "على رفوف المكتبات بعد مائة عام "كما قال تشيخوف في حينه بصدد تقييم أعماله في المستقبل.