التنوير كمنقذ من جحيم الطائفية والمذهبية

Saturday 17th of October 2020 06:24:12 PM ,
العدد : 4791
الصفحة : عام ,

هاشم صالح

بداية أود طرح هذا السؤال: لماذا يرفض الغربيون العودة إلى الأصولية المسيحية؟ لأنهم يعرفون معنى التديّن الأصولي القديم وكل العصبيات الطائفية والمذهبية التي يحملها معه أو تحت طياته،

وهذا شيء يريدون تحاشيه بأي شكل كان، فقد عانوا من حروب المذاهب المسيحية ما عانوا إلى درجة أن مجرد ذكراها يبث الرعب والاشمئزاز في النفوس، يكفي أن نعلم أن حرب الثلاثين عاماً (1618-1648) دمّرت نصف ألمانيا تقريباً واجتاحت معظم أنحاء أوروبا الأخرى، وهم لا يريدون العودة إلى هذه الحروب الطائفية التي مزقتهم تمزيقاً. وقل الأمر ذاته عن الحرب الأهلية الرهيبة التي جرت بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين في فرنسا، أصلاً التنوير جاء كرد فعل على هذه الحروب المذهبية التي حطمت أوروبا.

الكــــــاثـــوليكـيــون والبروتستانتيون كانوا أيضاً يكفرون بعضهم بعضاً مثلما تفعل المذاهب والطوائف عندنا حالياً. كل طرف كان يدعي أنه يمثل العقيدة المسيحية القويمة المستقيمة التي لا تشوبها شائبة وأن الطرف الآخر منحرف عنها ومهرطق وزنديق، وبالتالي فهو كافر يحل دمه، وهذا يعني أن عقيدة الفرقة الناجية موجودة أيضاً في المسيحية. جماعة البابا والفاتيكان يعتقدون اعتقاداً جازماً بأنهم هم الذين يمثلون المسيحية الحقة وليس البروتستانتيين أو الأرثوذكس الروس أو غير الروس من يونانيين وصرب ومسيحية شرقية عربية. وعلى هذا الأساس كان الكهنة والقساوسة يهيجون المتدينين البسطاء بعضهم على بعض لارتكاب المجازر والذبح على الهوية، عندئذ قرر فلاسفة التنوير فتح ملف العقيدة اللاهوتية المسيحية، واتخذوا قراراً بتفكيكها والانتقام منها حتى العظم! ماذا فعل بيير بايل وسبينوزا وفولتير ومونتسكيو وروسو وديدرو والموسوعيون الخ؟ هذا ناهيك عن كانط وهيغل وفويرباخ ونيتشه الخ، هنا بالضبط يكمن جوهر مشروع التنوير الكبير الذي يريد بعض المثقفين العرب القفز عليه بحجة أنهم تجاوزوه ووصلوا إلى مرحلة ما بعد الحداثة! برافو! 

ما هو السؤال الفلسفي المطروح علينا حالياً؟ 

السؤال المطروح الآن هو التالي: ما معنى اللحظة التاريخية التي نعيشها حالياً؟ في أي لحظة من التاريخ نتموضع نحن كعرب وكمسلمين؟ هل حقاً أننا تجاوزنا مرحلة الحداثة إلى ما بعد الحداثة، والتنوير إلى ما بعد التنوير، كما فعلت مجتمعات أوروبا المتقدمة؟ أم أننا ما نزال متخلفين عقلياً ومتأخرين فكرياً؟ لماذا لم تعد تحصل أي مجزرة طائفية أو مذهبية في فرنسا أو ألمانيا أو سويسرا في حين أنها كانت شائعة طيلة القرون الوسطى بل وحتى القرن الثامن عشر؟ ينبغي أنْ نعترف: نحن ما نزال نتخبط في متاهات العصور الوسطى الطائفية التكفيرية، نحن نتخبط في خضم الحروب المذهبية ، أطرح عليكم هذا السؤال: هل تجاوز المجتمع الباكستاني مرحلة المجازر الطائفية؟ ماذا حصل فيه مؤخراً من مجازر طائفية بل ويحصل بشكل دوري من وقت لآخر. وقل الأمر ذاته عن المجتمع الأفغاني، ماذا يحصل في نيجيريا أو العراق أو سوريا الخ؟ وقس على ذلك بقية المجتمعات الإسلامية والعربية من دون استثناء. إن مناهضي التنوير يتحدثون عن الأمور بكل خفة أو استخفاف وكأن المجتمع السوري أو المصري أو السعودي يقف على نفس مستوى الاستنارة العقلية كالمجتمع الهولندي أو الفرنسي أو الأوروبي عموماً. وأقصد بالاستنارة العقلية هنا انحسار العصبيات الطائفية والمذهبية بفضل هضم جماهير الشعب (وليس فقط المثقفين) للفلسفة العقلانية الحديثة وتجاوز المرحلة القروسطية للدين أو التديّن، أحيانا يخيل إلي وكأنهم يقولون: لا توجد طائفية عندنا ولا مذهبية ولا حروب أهلية مضمرة أو صريحة، كل شيء على ما يرام عندنا والحمد لله، نحن لا نشكو من أي شيء، من قال لكم إن عندنا مشكلة؟ نحن تجاوزنا مرحلة الحداثة والتنوير بسنوات ضوئية ووصلنا إلى مرحلة ما بعد الحداثة وما بعد التنوير القديم التافه! لماذا يريد هذا الشخص أنْ يعيدنا مائتي سنة إلى الوراء؟ وأنا أقول: إني أريد إعادتكم أربعمائة سنة إلى الوراء وليس فقط مائتي سنة! ليتكم توصلتم إلى مستوى الوعي الأوروبي في القرن السادس عشر. ليت أن شمس النهضة الإيطالية العظيمة أطلت عليكم ولو للحظة واحدة فأضاءت عتماتكم ودياجيركم المتراكمة بعضها فوق بعض منذ إغلاق باب الاجتهاد والدخول في عصر الانحطاط قبل ألف سنة. وبالتالي كفانا مكابرة أيها الأصدقاء. ورحم الله إمرأً عرف قدر نفسه. 

الفرق بين المعاصرة الزمنية / والمعاصرة الفكرية أو الأبيستمولوجية إذا لم نأخذ بعين الاعتبار الفجوة التاريخية الكبيرة التي تفصل الفكر الأوروبي عن الفكر العربي، أو تأخر المجتمعات العربية عن تقدم المجتمعات الغربية، فإننا لن نفهم شيئاً من شيء ولن نستطيع طرح أي مشكلة بشكل صحيح، هذا ناهيك عن حلها وعلاجها. وهنا تطرح علينا مشكلة التحقيب الزمني والأبيستمولوجي للفكر الأوروبي من جهة، والفكر العربي الإسلامي من جهة أخرى. ينبغي العلم بأن الفكر الأوروبي مر بمختلف المراحل حتى الآن وبشكل طبيعي تدريجي: مرحلة العصور الوسطى المسيحية، فمرحلة الحداثة، فمرحلة ما بعد الحداثة. وهنا ينبغي أنْ نتفق على الأمور، فمرحلة ما بعد الحداثة لا تعني إلغاء منجزات الحداثة! وإنما تعني تصحيحاً للانحرافات التي طرأت على الحداثة، أما منجزات الحداثة كالتنوير الديني وتجاوز الطائفية بواسطة العقل العلمي والدولة المدنية فلا أحد يريد التراجع عنها! لا ريب في أنهم أصبحوا يدعون إلى علمانية إيجابية منفتحة على البعد الروحاني للإنسان ولكن من دون العودة إلى النظام الأصولي الطائفي القديم ومن دون أي تراجع عن الفكرة الأساسية للعلمانية والدولة المدنية، لا أحد يريد التراجع عن دولة الحق والقانون الذي ينطبق على الجميع، ولا أحد يريد التراجع عن الحرية الدينية المطلقة: أي حرية أن تتديّن أو لا تتديّن على الإطلاق. بمعنى آخر فإن آية «لا إكراه في الدين» مطبقة في أوروبا وليس في العالم الإسلامي! ولذلك قال الإمام محمد عبده عبارته الشهيرة: في أوروبا يوجد إسلام بدون مسلمين، وعندنا يوجد مسلمون بلا إسلام! بمعنى أن مكارم الأخلاق والدقة في المواعيد والإخلاص في العمل كلها أشياء موجودة في أوروبا ولكن ليس عندنا. 

أكاد أسمعهم يقولون: 

يا أخي هذا الشخص يريد إعادتنا إلى عصر التنوير الأوروبي! يا أخي هذا الشخص يريد إعادتنا مائتي سنة إلى الوراء! ما هذا الهراء؟ نحن تجاوزنا كل ذلك. نحن في القرن العشرين بل والحادي والعشرين. متى سيفهم هذا الشخص أننا لم نعد في القرن الثامن عشر؟!. 

كرد على هذه المغالطة السهلة والمكابرة المضحكة سوف أقول ما يلي: إني لا أريد إعادتكم إلى القرن الثامن عشر فقط وإنما إلى القرن السادس عشر أيضاً! هل تعتقدون أنكم تجاوزتم الأسئلة التي طرحتها النهضة الإيطالية العظيمة على الدين؟ بل وأريد إعادتكم إلى القرن الثالث عشر وبدايات النهضة الأوروبية الأولى حيث أًنهمكوا في ترجمة علمائنا وفلاسفتنا وبنوا على ذلك نهضتهم الكبرى، بل وأريد إعادتكم إلى ما قبل ذلك بكثير: إلى القرن الثامن والتاسع والعاشر للميلاد: أي إلى العصر الذهبي العربي الإسلامي بالذات. هل تعتقدون أننا تجاوزنا التساؤلات التي طرحها ابن المقفع والتوحيدي والرازي والفارابي وابن سينا وابن رشد والمعري وسواهم على الدين؟ بل وحتى الأسئلة التي طرحتها فرقة المعتزلة المتنورة العظيمة لا نستطيع طرحها الآن. أيها السادة: العالم الإسلامي ليس متخلفاً عن ركب الحضارة علمياً وتكنولوجياً وفلسفياً فقط، وإنما هو متخلف دينياً ولاهوتياً أيضاً بل وبالدرجة الأولى. ما يقال عن الدين في العالم العربي والإسلامي حالياً شيء مضحك ومخجل. إنه يفضحنا أمام البشرية كلها، إنه يعرينا على حقيقتنا، هل تعتقدون أننا سنخرج من هذا المغطس الكبير الذي وقعنا فيه عن طريق مثل هذا الخطاب القروسطي التكفيري الذي يبثه شيوخ الفضائيات على مدار الساعة والذي يملأ العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه؟ لقد أصبحنا مهزلة العالم كله، بل وأصبحنا بعبعاً يرعب العالم بعد أنْ كنا ذروة الحضارة إبان العصر الذهبي، وبالتالي فالمسألة ليست مضحكة على الإطلاق. 

أخيراً.. الصراع الجدلي الخلّاق بين مثقفي الحداثة/ ومثقفي القدامة

قلتها مراراً وتكراراً في عدة كتب متلاحقة: هناك فرق بين التنوير الوسطي المؤمن/ والتنوير المتطرّف الملحد، الأول يمثله فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو وكانط وسواهم من عمالقة الفكر، والثاني يمثله ديدرو والبارون دولباك ونيتشه وفويرباخ وماركس وآخرون عديدون، وقد اخترت معسكري منذ البداية بكل وضوح، فأنا مع التنوير المؤمن بالله والعناية الإلهية والقيم الأخلاقية العليا لتراثنا العربي الإسلامي العريق. وقلت أيضاً إن تنويرنا لن يكون نسخة طبق الأصل عن التنوير الأوروبي. ولكن هذا لا يعني أنه سيكون معاكساً له على طول الخط! فهناك إيجابيات عديدة في التنوير الأوروبي خصوصاً في بداياته عندما كان لا يزال بريئاً ولم ينحرف بعد. ولا بأس من استلهامها والاستضاءة بها، وعلى أي حال فإن صراع الأضداد الذي جرى في أوروبا بين الفلاسفة ورجال الدين المسيحيين سوف يحصل ما يشبهه في الساحة العربية. بل وقد ابتدأ يحدث منذ الآن وبخاصة بعد أنْ وصل الإخوان إلى سدة السلطة في بعض البلدان العربية قبل أنْ يزاحوا عنها لحسن الحظ من قبل متنوري مصر وتونس، فمن الواضح أن الفهم الإخواني للإسلام يتعارض مع الفهم العقلاني المستنير، والصراع محتوم بين الطرفين، ولن نستطيع تحاشي ذلك مهما فعلنا، فإما إسلام الأنوار وإما إسلام الإخوان، انظر ما حصل في مصر إبان حكم مرسي من صراعات حادة حول «الأخونة»: أي أخونة الإدارة الحكومية والتلفزيون والإعلام والثقافة وكل شيء، ولكن الصراع ليس كله سلبياً كما ذكرت سابقاً، على العكس تماماً، كان هيغل يقول ما معناه: «لا شيء عظيماً في التاريخ يتحقق بدون صراعات البشر وأهوائهم الهائجة»، وبالتالي فما نشهده حالياً من اضطرابات في العالم العربي قد يكون ظاهرة صحية وليس مرضية، فالمجتمعات الراكدة الهامدة هي وحدها التي لا تعرف معنى الصراع، وبالتالي تجهل معنى الابتكار والإبداع والانتقال من حال إلى حال، وعلى مدار التاريخ كان هناك صراع جدلي خصب بين العقل الديني/ والعقل الفلسفي، وحضارتنا العربية الإسلامية لم تبلغ أوجها إلا عندما كان هذا الصراع متألقاً إبان العصر الذهبي المجيد، ولكن عندما توقف هذا الصراع وماتت الفلسفة أغلق باب الاجتهاد ودخلنا في عصر الانحطاط الطويل والفكر الأحادي الممل والتكرار والاجترار.. لم يعد هناك توتر ذهني أو صراع فكري في الساحة الإسلامية لأن أحد طرفي المعادلة، أي العقل الفلسفي، هُمش وقُضي عليه بل وتم تكفيره وزندقته. وبموت العقل الفلسفي حصل جمود للعقل الديني فأصبح فقيراً جداً من الناحية الفكرية لأن الفلسفة لم تعد موجودة لكي تغذيه وتستفزه وتدفعه إلى المزيد من النضج والانفتاح، للتدليل على ذلك يكفي أنْ نقارن بين العقل الديني عندنا والعقل الديني في الغرب، بصراحة لا وجه للمقارنة، فرجال الدين في أوروبا يطلعون على كتب الفلسفة ويستفيدون منها في تعميق الإيمان وفهم الدين، أما عندنا فيكتفون بقراءة الكتب التقليدية التي أكل عليها الدهر وشرب، نضرب على ذلك مثلاً عالم اللاهوت السويسري الألماني هانز كونغ ، إنه مطلع على أحدث النظريات الفلسفية والأبيستمولوجية، ولهذا السبب فإن دراساته عن الدين تبدو قوية ومقنعة على عكس دراسات التقليديين المُملة من كثرة التكرار والاجترار، وهذا يعني أن الاحتكاك بين الدين والفلسفة مفيد لكلا الطرفين، وبالتالي فلا بد من إعادة الاعتبار إلى الفلسفة والعقل الفلسفي إذا ما أردنا النهوض واستعادة العصر الذهبي مرة أخرى. وختاماً فإن تخبطات الربيع العربي شيء إجباري لا مندوحة عنه لأنه «لا بد دون الشهد من إبر النحل» كما يقول شاعرنا الكبير المتنبي الذي اكتشف معنى الجدل وقانون التقدم حتى قبل هيغل! وهذا يعني أن المرور بالمرحلة الإخوانية الأصولية على الرغم من صعوبتها وخشونتها شيء لا بد منه لكي نتحرر منها على طريقة: «وداوني بالتي كانت هي الداء» كما يقول شاعر كبير آخر.. لهذا السبب أقول إننا نعيش لحظة تقدمية من التاريخ العربي حتى ولو كانت تبدو ظاهرياً تراجعية بل وفجائعية!