العمود الثامن: أحزاب الحرائق

Sunday 18th of October 2020 08:53:01 PM ,
العدد : 4792
الصفحة : الأعمدة , علي حسين

 علي حسين

درس الرصافي أشعار أبي العلاء المعري وحفظها واطّلع على معظم ما كُتب عنها وكل ذلك في إعجاب شديد وحب صادق، وكان الرصافي يعرف أن المعري ينفر من المديح، فلم يكتب قصيدة في مديحه، لكنه اتخذ من منهجه في التأليف طريقة ليضع كتبه التي أطلق عليها أسماء "الرسالة العراقية " في "الرسائل والتعليقات "

حتى أن كتابه "الشخصية المحمدية" ذيّله بعنوان فرعي "رسالة في حل اللغز المقدس"، تيمنا برسالة المعري "الغفران" كان أبو العلاء ملهم الرصافي في فلسفة الوجود والحياة، حيث سلك مسلكه في انتقاد الساسة والأديان والمذاهب، ويذهب إعجاب الرصافي بالمعري حد أن يسميه "شاعر البشر": 

طاول الأرض والسما... شارف الشمس والقمر 

لا تقل شاعر العـرب... إنه شاعر البشـر

فالشاعر الضرير يطاول عنان السماء ويشارف بكلتا يديه الشمس والقمر، فيخترق الواقع والخيال، المعري عند الرصافي هو الأستاذ الذي لا أحد قبله ولا أحد بعده، هو صاحب الشعر الحق وهو كعهده أبدًا "قادم ذاهب، حاضر غائب، مقيم مفارق"، الإعجاب بالمعري دفع الجواهري الكبير أن يكتب قصيدته الشهيرة "قف بالمعرة ". يقول الجواهري في (ذكرياتي): "كان عبثًا أن تنجح محاولاتي في الساعة نفسها واليوم نفسه الذي تلقيت فيه هذا النبأ المفاجئ، نبأ المشاركة في ذكرى المعري فسهرت ليلتي الأولى حتى الصباح وألحقتها بأخرى وفي الليلة الثالثة كانت حصيلتي من هذه النهارات والليالي الثلاث، قصيدة لا تقل عن السبعين بيتا. يخبرنا بأنه صرخ: وجدتها!! عندما كتب مطلع القصيدة: 

قِفْ بِالْمَعَرَّةِ وَامْسَحْ خَدَّهَا التَّرِبَا … وَاسْتَوْحِ مَنْ طَوَّقَ الدُّنْيَا بِمَا وَهَبَا

ويضيف الجواهري في "ذكرياتي": " بينما كنت ألقي القصيدة كانت يدي اليمنى تمتد، عفو الخاطر، إلى الكتف اليسرى للدكتور طه حسين، الذي كان بجانبي، وهذا الرَّجل ليس أبا العلاء، لكنه كان الوحيد ممَن يجمع ما بين فكره وملامحه شيئًا غير قليل مِن خصائصه".

المعري الذي عاش مسالمًا رافضًا الجور والظلم لم يجد من أحزاب الإسلام السياسي سوى لغة "الفأس" التي انهالت على حكيم المعرة لتعلن عصر غياب الحكمة.. مثلما انهالت فأس أخرى في مصر أيام الأخواني محمد مرسي لتقطع رأس طه حسين، وهي نفس الفأس التي ترفع في العراق بوجه كل من يريده دولة رفاهية وعدالة اجتماعية . 

ليست القضية في قطع رؤوس رموز النهضة العربية.. لكنها في الجماعات الظلامية التي لا تريد للناس أن تعيش في النور.. الجماعات التي تعتقد أن السكين والفأس والحرق والاغتيال هي لغة البقاء والسيطرة، لا مكان للاختلاف مع الآخر.. فالفوضى وإثارة الناس دائمًا حاضرة وهي نفس الفوضى التي تصر عليها أحزاب السلطة في العراق، فلا فرق بين سكين تقطع رأس بريء، وفوضى تؤدي إلى تقسيم العراق.