قناديل: هل جرّبتَ عزاء الفلسفة ؟

Saturday 31st of October 2020 07:52:57 PM ,
العدد : 4800
الصفحة : الأعمدة , لطفية الدليمي

 لطفية الدليمي

لاأظنّ أنّ الخال ( علي حسين ) سيكلّ يوماً ما من متابعة قراءاته المنفتحة على تضاريس فكرية شاسعة ، ولاأستطيع تخيّل يومٍ يمرّ على المحيط الفيسبوكي الأزرق دون أنّ يترك فيه ( الخال ) علامة ممهورة بتوقيعه الأنيق ،

ولعلّ معظم قرّائه الدؤوبين يشاطرونني الرأي بأنّ مراجعاته لِسِيَر بعض العلماء والفلاسفة ( التي يبرعُ في سردها بعد أن يطيّبها بمقبّلات مستلّة من تأريخه الشخصي ) هي أطروحات فكرية مشبعة باللذة الكبرى والتفكّر العميق .

تمتّعت قبل بضعة أيام بقراءة واحدة من مُدوّنات الخال الفيسبوكية بعنوان ( كارل بوبر : الفلسفة في مواجهة المجتمعات المنغلقة ) فوجدتها رائعة فوق العادة لسببين - على الأقلّ - : الأول لأنها كشفت بعضاً من السيرة الفكرية للخال وأبانت عن بعض الكتب التأسيسية المهمّة في ميدان المنهج العلمي والفكر الفلسفي والتي ستشكّلُ ذائقته النقدية ومعالم خارطته الفكرية لاحقاً ؛ أما السبب الثاني فيكمنُ في أن المقالة ألقت ضوءً كاشفاً على أحد أساطين المنهج العلمي والفلسفة العلمية ؛ إذ لاتزال أطروحتا بوبر في قابلية الدحض Falsifiability وقابلية التفنيد Refutability هما العلامتان المميزتان لأية نظرية علمية بالمقارنة مع مايمكن وصفه بأنه علم زائف Pseudoscience . 

تشير مقالة ( علي حسين ) إلى بدايات ( كارل بوبر ) الفكرية وصداقاته العميقة مع بعض أعضاء حلقة فيينّا Vienna Circle التي أثمرت جهودها عن نشأة الفلسفة الوضعية المنطقية - ذلك الإتجاه الفلسفي الذي أراد أن يكون فلسفة عصر العلم . سعت الوضعية المنطقية لإحداث ثورة على المستوى الفلسفيّ طالت الإشتغالات الفلسفيّة التقليديّة وأثمرت كشوفات فلسفيّة جديدة لعلّ حركة التحليل اللغوي Linguistic Analysis والنزعة التحليليّة Analiticity في الفلسفة بعامّة تعدُّ أهمّ معالمها ، وقد ساهم فلاسفة مثل برتراند راسل Bertrand Russell وَ لودفيغ فيتغنشتاين Ludwig Wittgenstein في قيادة ركب الفلسفة التحليليّة .

عندما أقرأ مثل هذه الأطروحات الثرية ترتسم أمامي أسئلة جوهرية : ماالذي نبتغيه من الفلسفة ؟ وهل المطلوب أن تصبح الفلسفة علمية ؟ وهل الفلسفة العلمية هي الشكل الوحيد للفلسفة الذي يمتلك مشروعية البقاء والنمو والسيادة ؟

بشّر العديد من العلماء بموت الفلسفة ( في مقدّمتهم الفيزيائي الراحل ستيفن هوكنغ ) ، وهم عنوا بهذا الموت ضرورة أن تبتعد الفلسفة عن مقاربة الموضوعات الوجودية الأساسية الثلاثة الخاصة بأصل كل من الكون والحياة والوعي ، وفي منطقتنا العربية ساهم فلاسفة مرموقون من العيار الثقيل ( في مقدّمتهم الراحل زكي نجيب محمود ) بالتبشير بسيادة عصر الفلسفة الوضعية المنطقية وموت كلّ الفلسفات الأخرى باعتبارها غير علمية ، وأظنّ أنّ شيوع الجهل والخرافة والأصوليات الدينية هي الأسباب التي دعت هذا الفيلسوف إلى إعلاء شأن هذه الفلسفة وتسخيف ماسواها إلى حدّ صارت معه الفلسفة الوضعية المنطقية تمثل أصولية مقابلة للأصوليات السائدة . 

أرى أنّ المسعى الجوهري للفلسفة في عصرنا الحاضر ( عصر الثورة التقنية الرابعة ) يكمن في تقديم الفلسفة دروساً وأمثولات معيارية للعيش الطيّب والحياة الخيّرة فضلاً عن تقديمها عزاءات للكائن البشري تمكّنه من مواصلة حياته المثقلة بألوان التراجيديا الوجودية المؤلمة ، وربما يمكن تلمّس مصداقية هذه القناعة في حقيقة الزيادة المذهلة لقرّاء الكلاسيكيات الفلسفية الإغريقية ( وبخاصة المحاورات الأفلاطونية والملاحم الإغريقية المعروفة ) ، إلى جانب الكلاسيكيات الفلسفية التي سادت عصر النهضة الأوربية والتي تشهد قراءات متواصلة لم تخفت جذوتها على مرّ السنوات .

ثمة في الحياة دوماً فضاءات أبعد من فضاء العلم والتقنية.