سعيد الكفراوي وداعاً

Monday 16th of November 2020 07:18:43 PM ,
العدد : 4812
الصفحة : عام ,

عائد خصباك

في سفرتي الى القاهرة هذا العام ، أيام معرض القاهرة الدولي للكتاب، طلب مني صديق العمر "سعيد الكفراوي " وبإلحاح غير عادي أن يستضيفني في بيته الذي في " المقطم "،

وقد استجبت فقضيت معه مدة أسبوعين ، وأعتقد هي أطول فترة قضيناها نتحدث وجها لوجه، سألته مرة: لماذا كنت مصرّاً على استضافتي عندك أكثر مما يجب؟ . و بطريقة من كان متأكداً من قوله أجاب: ربما هي المرة الأخيرة التي يرى فيها أحدنا الآخر. قبل ثلاث سنوات تقريباً ماتت زوجته " أحلام " بالداء نفسه، و ها هو اليوم يغادر.

عرفت سعيد الكفراوي قبل هذا الحدث بسنوات بعيدة، ومن يومها لم تمر صداقتنا بما يعكرها، غادر الأستاذ نجيب محفوظ مقهى "ريش" على غير عادته، كنت أثناء ذلك مسرعاً لألحق ما تبقى من الجلسة هناك، رأيته يعبر الشارع وكنت قاب قوسين أو أدنى من الجالسين في "ريش"، وقبل أن أجلس قام سعيد الكفراوي من مكانه على عجل، فقد سمع الأستاذ نجيب محفوظ يناديه من هناك فما رد عليّ السلام. 

في العادة الأستاذ نجيب يغادر "ريش" في تمام التاسعة لكنه غادرها اليوم قبل ذلك بأكثر من ساعة، وأنه ما سار على الرصيف القريب ويأخذ طريقه سيراً على الأقدام باتجاه ميدان التحرير، هذه المرة عبر الشارع إلى الجهة المقابلة.

سألت الشاعر عفيفي مطر: فيه حاجة؟ لم يجبني وظل نظره مشدوداً إلى هناك حيث الاستاذ نجيب وهو يكلم الكفراوي، ما كان الأستاذ مرتاحًا وسعيد أثناء ذلك ما كانت له جرأة النظر في عين معلّمه. قال أمل دنقل لي: خليك برّه وبعيد. قال إبراهيم منصور لأمل: قل له اللي حصل. لكنه لم يقل. أما بقية الحضور فكأن الطير على رؤوسهم. 

قبل أن أصل انشغل سعيد الكفراوي ومحمد عفيفي مطر وقلّة من الجالسين بالكلام، والأستاذ نجيب من مكانه يسمعهم، لا يتكلم، كانوا بصدد تقييم الغناء المصري، واعتبروه سبباً يضاف إلى أسباب أخرى مهمة في التمهيد لهزيمة حزيران 1967، وعندما وصل الأمر بسعيد الكفراوي وعفيفي مطر إلى ضرب الأمثلة، تردد على لسانهما كثيرًا اسم "أم كلثوم"، كانت وجهة نظر سعيد الكفراوي أن حكام مصر شجعوا هذا الغناء، لما له من تأثير سلبي على الغالبية العظمى من الشعب، فليس هناك في تقديرهم حاجة لتغييب الوعي أفضل من آهات أم كلثوم. في نظر الكفراوي الحالم بعالم جديد، والمتحمس لتغيير الحاكم الفاسد وزمرته التي سرقت قوت الشعب الذي لا حول له ولا قوة، أم كلثوم هذه هي مطربة قادمة من زمن الباشوات، تطلق تلك الآهات حتى وهي تمجد ذات الرئيس. 

أثناء ذلك راقب الأستاذ نجيب الموضوع وراقب المتكلمين، وقلّب النظر وانتظر أن تطوى هذه الصفحة إلى غيرها فما طويت، شحب وجهه ودخن سيجارة في غير موعدها فما عادت له القدرة للمضي في الاستماع، حاسب النادل وأسرع بعبور الشارع الى الجهة المقابلة. 

و هناك عبر الشارع، وقف سعيد أمام نجيب محفوظ بعدما ناداه وقال له: أمر يا فندم. قال الأستاذ نجيب بصوت غاضب، وقد قبض على ياقة قميص سعيد وهزها بشدة: إياك، أنت وعفيفي مطر تشتموا أم كلثوم أمامي مرة ثانية، فاهم. بعد ذلك أنزل كفه من ياقة القميص وتابع المسير. 

بدا الكفراوي وهو متجه ناحيتنا كأنه في مهب ريح عاصف، وبدا أيضًا مثل من يريد أن يسند دماغه في أي كرسي فارغ بيننا حتى لا ينفصل دماغه عنه، كان سعيد وقد غضب معلمه من تصرفه ونزقه، في حالة احباط وشرود وانعدام تركيز. 

تهاوى فوق أقرب كرسي فارغ متشبثًا بطرف الطاولة، وبدا كما لو أنه انفرط تمامًا فاستحال على المرء تجميعه، ونطق سعيد بصوت مكتوم: روّحني يا عفيفي. 

في الأسبوع الذي أعقب ذلك، لم يأت الأستاذ نجيب الى تلك السيرة، وعندما تفتحت أسارير الأستاذ وهو ينظر الى سعيد ، أشرق وجه سعيد وظل مشرقا الى نهاية الجلسة.

كنا نجلس في الصالة قبل منتصف النهار وقد قررنا أن نذهب الى معرض الكتاب وهناك نجد لنا حاجة نأكلها .لكن فجأة فتح الدكتورحوريس الباب علينا بمفتاحه " وحوريس هو الابن الأكبر لسعيد الكفراوي ويسكن مع عائلته بالقرب من سكن أبيه في المقطم "، كان يحمل معه كيساً من البلاستك الشفاف، فيه سمكة. القى التحية وتوجه مباشرة الى المطبخ،كان الدكتور حوريس و أصحاب له في رحلة صيد الى البحر الأحمر،والسمكة كما قال: حصتنا من صيدهم الوفير. أنا تبعته فوراً الى المطبخ ومن بعدي سعيد، فوجدت السمكة مطروحة على دكة هناك وكانت كبيرة بالفعل، و لأن لونها أحمر،سألت حوريس:هل أسماك البحر الأحمر جميعهن حمراوات اللون مثل هذه؟ قال:معنى هذا بتقديرك أن أسماك البحر الأبيض كلهن بيضاوات اللون وأسماك البحر الأسود كلهن سوداوات اللون؟قال سعيد: إذا كان الأمر كذلك، ماذا سيكون لون أسماك البحر الأدرياتيكي ، اللون الأدرياتيكي؟ قلت : تماماً ،ولون الأسماك في المحيط الأطلسي، اللون الأطلسي. قال حوريس: ولون الأسماك في مضايق تيران اللون التيراني. 

قال حوريس: هي أمامكم تصرفوا معها بما تشتهون، وأنا مع السلامة.

وقفنا نتأمل السمكة من رأسها لذيلها، قال سعيد: أفضل حاجة لمثل هذه السمكة هي الشواء، أنا أعرف فرنا قريب من هنا ، وصاحب الفرن رجل معرفه ويفهم في مثل هذه الأمر، هو يتولى أمرها ، عنده التوابل الخاصة،أنا فقط أسلمه اياها ، وهو عليه البقية،رجل والرجال قليلون هذه الأيام.وأسرع لتغيير ملابسه ليخرج، ومن غرفته سمعته يقول: عليك بالسلطة ، ولا تنسى تحضير البصل الأخضر. قلت : ما رأيك أحضر البصل العادي بدل الأخضر،أقطعه وأضع فوقه السماق.قال: لكن لا يوجد عندي سماق، سأجلبه معي لو عثرت عليه عند الفرّان.

أخذ السمكة وعند الباب قبل أن يغلقها خلفه ، خُيّل لي أن رأيتها تحرك زعانفها وتضرب بذيلها، ربما مستنجدة بي أن لا أدعها تذهب الى الفرن.

طال غياب سعيد، وأنا خلال ذلك انتهيت من عمل السلطة،وقد وضعت اللمسات الأخيرة فوقها،عصير الليمون الحامض وقليل من حبات الزيتون نثرتها هنا وهناك، عملت شرائح البصل بنوعيه، وضعت كل شيء بمكانه على المائدة.

وصل سعيد أخيراً ومعه السمكة، كان يحملها كما لو كان يشيعها الى مثواها الأخير على المائدة ، كان حزينا بحق. اندهشت لمنظر السمكة ولم أكن أتوقع ذلك: رأسها مسودّ، والذيل أكثر اسوداداً، أو في الحقيقة لم يكن هناك ذيل، مجرد حاجة متفحمة، جاءت في نهاية ما كان يحوّط حواشيها من سواد، أما وسطها فما كان بأقل قسوة وصلابة من عمودها الفقري.

قلت: ما هذا الذي أراه يا سعيد؟

قال: انشغل صاحب الفرن عنها بمكالمة هاتفية، ويبدو أن الشخص على الطرف الآخر مهم جداً بالنسبة له، فقد نسي معه الدنيا وما فيها ،وطبعا سمكتنا كانت ضمن " ما فيها ".