إشكالات الإصلاح المالي ومستقبل التنمية الإنسانية المستدامة في العراق

Wednesday 18th of November 2020 07:12:31 PM ,
العدد : 4814
الصفحة : آراء وأفكار ,

 د. أحمد عبد الرزاق شكارة

دعونا نتفق على أن الاصلاح المالي في العراق يعد جزءاً لايتجزأ من ضرورة حتمية لانعاش العراق إنسانياً في جميع المجالات التنموية – الستراتيجية . إذ حتى وبإفتراض أن الإصلاح المالي والورقة البيضاء التي أصدرتها وزارة المالية في تشرين أول الماضي 2020

قد بدأت عمليات وخطوات إصلاح فعلية حقيقية تلامس نتائجها ما يحتاجه المواطن العراقي من إحتياجات ومطالب حياتية – يومية لن يمكن للعراق وشعبه أن يعيش حياة كريمة حقيقية طالما بقي جزء أو أجزاء مهمة من التركة الإنسانية الثقيلة التي تركتها الأنظمة السياسية العراقية عبر سياق تأريخي طويل زمنياً محملة بجروح نازفة في الجسد السياسي العراقي يحتاج تضميدها إلى جهود جبارة على المستوى الستراتيجي الوطني والدولي معا. من هنا، استرعى إنتباهي أن تقرير النظرة الشاملة للاحتياجات الإنسانية Humanitarian Needs Overview الصادر عن دائرة البرنامج الإنساني للعام 2020 – Humanitarian Program Cycle قد أوضح جلياً في مقدمة ملخصه التنفيذي أن الوضع الأمني العراقي مازال غير مستقر ومحملاً بهموم إنسانية عبر سنوات طويلة نسبياً من الصراعات الداخلية أدت إلى إقتلاع الملايين من شعبنا الصابر المحتسب من مواقع وجوده الأصلية مضافاً إلى جملة مآسي إنسانية سماتها الجلية خروق وإهدار للتماسك والتجانس المجتمعي وللمال العام ما أنعكس على عرقلة وصول الخدمات والاحتياجات الإنسانية الاساسية للمواطنين. تبعاً لمثل هذه الحالة المزرية أضحت جموع بشرية عراقية كبيرة الحجم السكاني معرضة للمخاطر وبالتالي بحاجة ماسة للمزيد من الحماية الإنسانية على المستوى الحكومي وغير الحكومي. ولعل ما زاد الطين بلة أن الضعف الحكومي رافقه عمليات إعادة بناء وإصلاح محدودة جداً يمكن القول بإنها شكلية وليست جوهرية اشبهها بنساج ماهر عهدت إليه مهمة إصلاح سجادة كبيرة الحجم ولكنه عاجز أن يتم مهمته كون السجادة ذاتها تعاني من إتساع الثقوب . ". ما أكد هذه الحقيقة المؤلمة أن مقياس المخاطر العالمية Global Risk Index قد وصف العراق : دولة ذات دخل متوسط عال Upper income شعبها يعاني من درجة عالية جدا من المخاطر الإنسانية على رأسها ظاهرة النزوح الداخلي للملايين من السكان والهجرة لخارج العراق كنتيجة متوقعة لتداعيات الصراعات ، الحروب والأزمات السابقة مروراً بالاحتلال الداعشي 2014 -2017 وأخرى عقب الحرب المظفرة ضده في عام 2018 حيث سكنت مجاميع عديدة منهم في معسكرات النزوح على أمل العودة لمناطقهم في عام (2020). صحيح إن قسماً منهم عادوا وأخرين في الطريق ولكن أعدادهم مازالت لاتقل عن مليون ونصف المليون شخص تقطن المخيمات عودتهم ليست ميسورة أو مأمونة العواقب كون مناطقهم لازالت تفتقد أبسط الشروط الإنسانية للعيش الحرالكريم . ما يدفع بالضرورة للحاجة لإصلاح حكومي حقيقي لإعادة الإعمار باعتباره شرطاً مسبقاً لتوفر المناخ السياسي – الأمني المواتي لعودة قاطنيها لمناطقهم و ثم بدء المسيرة الانسانية الطويلة لترميم حياتهم . إن يد الإنسان والعوامل السياسية والأمنية الهشة لها نصيب مهم في إحداث مثل هذه الأزمات الإنسانية المؤلمة وهي الغالبة مقارنة بما يحدث من كوارث طبيعية إنسانية عالمية لايعاني العراق منها. لاشك أن توفر الأموال الضرورية اللازمة لإعادة الإعمار والبناء تحتاج لسيولة مالية ودرجات عالية من الاهتمام لإطلاق مشروعات استثمارية حقيقية بعيداً عن ظاهرة الفساد أوحالات التلكؤ في الإنجاز ما يعطي أهمية واضحة لدور مبادر لوزارة المالية والوزارات ذات العلاقة التي يفترض أن تهتم بإدارة الشان المالي- الاقتصادي بكل مهنية واقتدار ونزاهة. ولكن ما نشهده في الفترة الزمنية القائمة لحكومة السيد مصطفى الكاظمي أنها مازالت تواجه تحديات وأزمات سياسية –أمنية - اقتصادية مركبة ومعقدة ومنها الأزمة المالية الأخيرة التي عرفت بإزمة العجز المالي التي جاءت كنتيجة طبيعية لتراكمات ثقيلة جداً ورثت من الحكومات السابقة . عرفت الأزمة المالية الراهنة في تقرير أصدرته مؤسسة Carnegie إنها سيئة جداًIraq’s dire fiscal crisis في بداية شهر تشرين ثاني 2020 . كما أن البنك الدولي World Bank -WBأشار إليها في تقريره الأخير الصادر في ال11 تشرين الثاني 2020 تحت عنوان "كوفيد وإنخفاض أسعار النفط تدفع الملايين نحو الفقر- Covid-19 and Low Oil Prices Push Millions of Iraqis into Poverty". الرقم الفلكي الذي أشار إليه التقرير عن إعداد الفقراء قد يصل إلى مايقارب 5.5 مليون ، مضافاً إليه ماينيف عن 1.7 مليون شخص سيقعون في شبكة الفقر كنتيجة لإنخفاض المرتبات والأجور للموظفين وللمتقاعدين ما يعني تصاعد النفقات المالية مقارنة بتقلص الايرادات المتحققة عن عوائد النفط . كل ذلك بسبب استمرار أزمتي انخفاض اسعار النفط وتفاقم جائحة كورونا ما أضاف رصيداً متراكماً ضخماً من المعاناة الإنسانية لاقبل للحكومة بمواجهتها لوحدها إلا من خلال إتخاذ إجراءات مالية جراحية بالتعاون والتنسيق مع مؤسسات الدولة المعنية ومؤسسات المجتمع الدولي . إن غياب العمل الجاد على تفعيل خيارات إبداعية أخرى منتجة لرأس المال المادي والبشري المتخصص ستضيف ولا شك إلى شكل من أشكال التقشف المالي - المرحلي الذي يضيف للمآساة الإنسانية كثيراً من المعاناة على حساب التهيئة الدقيقة المواكبة ليس فقط لمواجهة تحديات إنقاذ الاقتصاد العراقي من الانهيار ولكنها تأتي على حساب تشكل المضمون الإبداعي لمواكبة تطورات العصر الحديث ما يمكن العراق من إحداث نقلة ستراتيجية في الإصلاح الاقتصادي والتنموي ستنعكس إيجاباً على الارتقاء بنوع الحياة الإنسانية. علماً ، أنه لن تنتهي تداعيات الأزمة المالية الراهنة من خلال توفير الرواتب لموظفي الدولة وللمتقاعدين فقط بل لابد أن تعمد السلطات المعنية إلى تقليص العجز والديون التي وصلت إلى أرقام فلكية في بعض التقديرات (81 ترليون دينار للعجز وديون متراكمة سابقة تقدر ب200 مليار دولار وفقا لرأي الخبير والمستسشار الاقتصادي الدكتور ناصر الكناني ). 

هذا ومن الأهمية بمكان أن تتخذ السلطات الحكومية المالية العراقية وغيرها عبراً ودروساً ومقاربات جادة وموضوعية نسبياً مع المؤسسات المالية – النقدية والاقتصادية ذات العلاقة في المحيطين الداخلي والخارجي كي تستطيع أن تنطلق إلى مرحلة ذات أبعاد ستراتيجية – إنسانية تغطي المديات القصيرة – المتوسطة والبعيدة التي تحتاج للكثير من الدقة المهنية وبعد النظر والحكمة والإبداع في ابتكار حلول وخيارات عملية ، علمية وتقنية تواكب أحدث ما يتوصل إليه العلم والتقنية الحديثة في زمن سريع الايقاع . 

من منظور مكمل لابد من الإشارة إلى أهمية مستجدات الوضع المالي حيث تم إقرار البرلمان العراقي لقانون تمويل العجز المالي في مساء يوم الثاني عشر من تشرين الثاني الجاري معتمداً على آلية الاقتراض من البنك المركزي والمصارف العراقية الأخرى . ضمن هذا السياق كان للجنة البرلمانية المالية بيان لافت صدر في ال13 من تشرين الثاني ما يلي عدداً من نقاطه المهمة نقتبس منها : 

أولاً : "على الرغم من الجهد الكبير الذي بذلته اللجنة المالية النيابية بتقليص فجوة الانفاق الحكومي من 41 إلى 12 ترليون دولار في قانون تمويل العجز الذي أقر مؤخراً إلا أننا (اللجنة المالية النيابية) نجدد اعتراضنا على الاستمرار بإنتهاج سياسة الاقتراض بديلاً عن إيجاد طرق وإصلاحات حقيقية وفعالة لزيادة الايرادات وتقليص النفقات".

ثانياً: ما دفع اللجنة المالية النيابية للقبول "بهذا الحد من الاقتراض هو أرزاق الناس وقوتها المتمثلة بالرواتب والمنح والإعانات والأدوية ودعم المزارعين ومشاريع المحافظات وغيرها من النفقات التي اعتقدت – اللجنة المالية النيابية- بإهميتها القصوى والتي لامناص من قبولها".

ثالثاً: "في الوقت الذي ضمنا فيه هذا القانون بعض النصوص القانونية واجبة التطبيق والتي نعتقد إنها قد تكون بداية لأصلاح بعض المؤسسات والحركات المالية على المدى القصير فأننا (اللجنة المالية النيابية) عاكفون على تقديم رؤية متكاملة لوضع الحلول السريعة والواقعية لمعالجة التدهور الاقتصادي والمالي الذي تعاني منه الدولة العراقية..". 

حلول مناسبة اعتبرتها اللجنة المالية بمثابة "مفاتيح لإصلاح الوضع الاقتصادي العراقي" من خلال الايفاء باحتياجات المواطنين الأساسية من خلال سياسة الاكتفاء الذاتي ولو أن تحقق هذا الهدف كما ذكر بيان اللجنة سيتم "بصورة جزئية خاصة بما يتعلق بالوزارات الانتاجية أوالخدمية وأن لاتجعلنا – اللجنة المالية النيابية - دائمة أمام خيارين إما القبول بسياسة الاقتراض أو قطع أرزاق الناس من أبناء شعبنا العظيم ". خياران أحلاهما بالفعل مُر مرارة العلقم ما يستدعي جهداً جماعياً وطنياً "حكومياً ومدنياً" والنظر الستراتيجي لكل المدخلات التي تتقاطع وتتكامل مع الشأن الاقتصادي والمالي موفرة خيارات متنوعة يحسن تطبيقها تدريجياً ومتابعة تنفيذها كسلة متكاملة من الحلول الواقعية بعيداً عن معطيات الدولة الريعية النفطية التي سادت افكارها ونهجها مدد طويلة نسبياً في الساحة العراقية . ولعل تنويع مصادر الدخل والطاقة اضحى من الاولويات للدولة العراقية بهدف بناء وتنمية الاقتصاد التقليدي (صناعة ، زراعة خدمات) وغير التقليدي (اقتصاد معرفي - سايبري Cyber Knowledge Economy ) وفقاً لإهمية اعتماد مسار التنمية الانسانية المستدامة . من هنا ، فإن أبرز التحديات القادمة يتمثل بالتخلص أو التقليل من قيمة التقلص المتوقع للناتج المحلي الاجمالي للعام 2020 البالغ %9.5 بالتزامن مع تعظيم ايرادات الدولة التي فقدت %47.5 من قيمتها خلال الاشهر الثمانية الماضية مايعد خسارة فادحة. لعل الأمر يرجع إلى استمرار وتصاعد حدة مآسي جائحة كورونا مضيفة بعداً آخر مهماً مرتبطاً بجانب أساسي للأمن الوطني إلا وهو الأمن الصحي Health Security ما يستوجب توفر أفضل الخبرات والتخصصات المهنية العراقية وغيرها من دول العالم في مجال الامراض والاوبئة المعدية التي لابد للسلطات الحكومية ان تستقطبها كي تؤسس من خلالها جهودها الحثيثة مراكز طبية – صحية وتقنية عالية المستوى لخدمة العراق وشعبه ، إذ أن شعبا عليل لايمكنه أن يحقق إنجازات قيمة عالية المستوى. ترتيبا على ماتقدم فإن التنمية البشرية المستدامة تعني الاهتمام الكبير بجيلي الطفولة والشباب باعتبارهما عماد مستقبل العراق مسالة يجب ان لاتغيب عن ذهن أي مسؤول او صانع قرار خاصة إذا عرفنا ان الجيل الجديد من الشباب بشكلون ما ينيف عن 40 % إلى 50% من مجموع سكان البلاد الذي ستوكل إليه مهام بناء تنمية إنسانية مستدامة. ضمن هذا السياق لابد للسلطات العراقية المسؤولة أن تجوّد أدائها وتركز جهدها على تقديم المعلومات الصحيحة والدقيقة عن كل الشؤون الحياتية – الإنسانية بصورة تمكن الجهات المختصة من التخطيط والتنفيذ المواكب لمشروعات التنمية الإنسانية بما يحفظ وينمي حقوق الإنسان ويطلق العنان للحريات الاساسية وللتفكير الحر الإبداعي تأصيلا لخلق أرضية متماسكة لمجتمع متماسك إنساني نجد ، نجتهد ونسعى للوصول إليه إليه بعيداً عن مجرد تلبية الاحتياجات أوالمطالب اليومية أو الآنية فقط. أخيراً يمكن القول إن التحديات الانسانية تحتاج لجهود جماعية حكومية وغير حكومية من منظمات المجتمع المدني ومن جهات تابعة للتنظيم الدولي وللأمم المتحدة للتخفيف من المعاناة الانسانية لشعبنا ، مرحلة إستثانية يفترض أن توفر رؤى جيوستراتيجية وآليات إنسانية تواكب بل تسارع في التنافس والتفوق على الآخرين من دول أو من تنظيمات مجتمعية بعيدة عن سلطان أوهيمنة سلطة الدولة التي يراد لها أن تحسن إدارتها من خلال الحكم الرشيد Good Governance وتفعيل أرادتها المستقلة لمواجهة قوى الفساد بمختلف أشكاله وصوره وإنعاش درجة النمو الاقتصادي للنائج المحلي الاجمالي تمهيداً لإنجاز متطلبات التنمية البشرية الانسانية من أجل بناء الدولة المدنية – دولة القانون والعدل الاجتماعي التي تضع حماية ، رعاية ومواكبة تنمية مستوى ونوعية الحياة لفئة المحرومين والمهمشين ضمن قمة أولوياتها .