أورهان باموق والرؤيا السحرية للتاريخ

Tuesday 24th of November 2020 06:53:32 PM ,
العدد : 4818
الصفحة : عام ,

عبد العزيز الحيدر

أورهان باموق، روائي تركي فاز بجائزة نوبل للآداب ، لعام 2006. من مواليد اسطنبول في 7 حزيران عام 1952 وهو ينتمي لأسرة تركية مثقفة.

 درس العمارة والصحافة قبل أن يتجه الى الأدب والكتابة كما يعد أحد أهم الكتاب المعاصرين في تركيا وربما في العالم , وترجمت أعماله الى 34 لغة حتى الآن ، ويقرأه الناس في أكثر من 100 دولة. نحاول هنا أن نلقي بعض الأضواء على أسلوبه الروائي المميز من خلال روايته اسمي أحمر والتي نبهت العالم الى روائي مميز استحق جائزة نوبل للآداب عام 2006 .

قوة حضور المكان وحضور الإكسسوارات والديكور في البناء الروائي الفني لأورهان واضحة بل تصل الجرأة الفنية لديه لحد إشراك الأشياء (الكلب..النقود ...) في الحوارات والسرد كشواهد تتلاعب بالمصائر بنفسها أو بكناها من خلال استمراريات البحث الفلسفي القائم في روايته (اسمي أحمر) وكخط متوازي مع البحث التاريخي والبحث الدرامي(إن جاز التعبير هنا) حيث إن البناء الدرامي للقص لدى أورهان بناء مستحكم , ودقيق يصبو به كاتبه الى الكمال الفني ولذلك يجوز اطلاق مصطلح البحث الدرامي عليه وليس مصطلح الدراما لوحدها , وأورهان الى جانب مميزاته المتعددة كباحث تاريخي متمكن وناقد فني بارع وضمن النص الروائي ذاته وليس بعيداً عنه , يبدو بالإضافة الى هذا كله , كاتباً مسرحياً خالصاً ولكنه يعمل بمعول الروائي .....إنه كاتب مسرحي يخشى لسبب أو آخر إعلان كونه كاتباً مسرحياً ,إن براعته مميزة في استخدام التقنية المسرحية الحديثة أو ما يسمى بتقنية الاغتراب أو المسرح الملحمي البريختي والتي تماثل ميكانيكياً تقنية تعدد الأصوات الفوكنري في الرواية والذي أصبح من بعد (الصخب والعنف )تقنية شائعة ومحببة تجنب الروائيين الكثير من التفكير المقلق في كيفية ربط تعدد وجهات النظر وجمالية الأسلوب متعدد الطبقات السردية كبدعة فنية ,

إن أورهان من ناحية استخدامه تقنية المسرح لا يتعامل مع مسرحة روايته ككاتب مسرحي فقط بل كمخرج أيضاً من خلال تحديده لحركات أبطاله ضمن رقعة المشهد واختيار أماكن العمق أو جوانب المسرح حيث كثافة الظلال والعتمة والديكور الغامق (إن جاز التعبير) , وكذلك فان استخدامه للأصوات الخارجية للإيحاء المسرحي كأصوات الكلاب التي تتكرر في أكثر من موضع وكظهور الرواة بالتتابع ثم إشارات من الأداء المسرحي الملحمي البريختي من قبيل همس الممثل للمشاهدين وإشراكهم في الحوار واتخاذ المواقف مع النهايات المفتوحة التي تشتغل على وعي المتلقي وأشراكه في المشكلة المطروحة وتركه أمام محنة دور الوعي لدى المتلقي.

إن واحدة من أصعب الاقتحامات التي مارسها أورهان في هذه الرواية عبر الحوارات الواسعة والمكثفة حول بعض الجوانب في فلسفة الفن في الإسلام وهي حاله نادرة في الأدب الروائي يمكن أن تميل بالأسلوب كله الى النهج الفلسفي للقص خاصة عند ارتباطه مع المحتوى التاريخي للحكاية وهي هنا محتوى مدروس , وواقعي , ومرتبط بدراسة سوسيولوجية تختص بدراسة تعامل المجتمع الاسلامي في فترة القرنين الخامس والسادس عشر إبان احتدام الصراعات بين الصفويين والعثمانيين وأيام تأسس الإمارات والأتابكيات وبروز سيطرة الولاة من الباشوات والخانات ومحاوله تشبه السلاطين بالأساليب الارستقراطية لحياة الطبقات الغربية المترفة , وكذلك إبرازه لصراع الحضارت أو تأثيرات الحداثوية الغربية في أوج عصر النهضة الأوروبية على الأقل في مسألة الموقف من الرسم أو ما كان يسمى بالنقش تقية وتخوفاً من الاتهام بالكفر بالاقتراب من المجسمات عموماً , مع إظهاره لامتدادات فكرة التكفير وتهديد أي حامل لفكرة جديدة واتهامه بالكفر والخروج على الدين. إن جملة واسعة من بث اقحامات البحث التاريخي لأورهان والتي استغرقت منه بحثاً على مدى عدة سنوات , استغرقها الإعداد والكتابة لهذه الرواية تجعلنا حقاً نقف منبهرين بمنهج وأسلوب للسرد يمكن أن نطلق عليه منهج التاريخية وربما (التاريخية السحرية )تحديداً , لما يشتمل عليه من غرائبية دقة الاختيارات المؤثره شعرياً.... كالشوارع المهجورة وتساقط الثلج ونباح الكلاب واختيار الأماكن المعتمة وتكرار ذكر الظلام وإيقاد الشموع ووصف جوانب الشوارع المزروعة بأشجار السرو والتشرد في الأزقة وملامسة الأسوار والإطلالات من زوايا الرؤية المتعددة في الفصل الخاص بمراسم دفن (النقاش ظريف) ثم هذا الإحساس الشاعري الرقيق بتقلص صورة المكان وانكماشه مع بعد الزمن الطويل لآخر لقاء به(اي المكان)والكثير الكثير من صور وإيحاءات الشعر التي هي إيحاءات سحرية بطبيعتها تلقي ظلالاً من التباين اللوني والشعوري على المنهج التاريخي للقصص فتكمله على الوجه الذي نحدده هنا بالتاريخية السحرية.

إن رواية اسمي أحمر هي بحق رواية تاريخية - فلسفية - فنية - دينية - بوليسية تتظافر فيها قصص الاغتيالات والمؤامرات والدسائس بين رسامي المنمنمات الإسلامية في البلاط العثماني في القرن السادس عشر ، مع قصص الغيرة والحنين والأحقاد والحب الممنوع. إنها حكاية فنان تركي قُتل إذ كان يرسم لوحة بأسلوب غربي،من خلال استخدام تقنية المنظور والأبعاد والظلال وكلها تقع في دوائر المحرمات الإسلامية المؤلمة حد الموت .

إن اللون عند أورهان يقع في دائرة الانتباه الاولى ولذلك فإن معظم رواياته تحمل في عناوينها الدلالة اللونية ولذلك فإن اللون الأحمر في هذه الرواية هو لون الدم والجريمة بقدر ما هو لون الجنة التي تنتظر روح الفنان بعد الموت ، إنه الأحمر المتوهج "على أجنحة الملائكة وعلى شفاه النساء " ، بقدر ما هو ذلك النازف "من جروح القتلى والرؤوس المقطوعة" . إنما يمكن القول إنها في شكل رئيس رواية حول الفن ودوره في المجتمع والأخلاق والدين ، إذ تتضمن شبه دراسة عن المنمنمات الإسلامية وتاريخها والتأثيرات الصينية التي جلبها المغول إليها وتطورها في بلاد فارس .