الفيلم الكندي Easy Land : الواقعية في سَرد أحلام المهاجرين وانكساراتهم

Wednesday 2nd of December 2020 09:04:25 PM ,
العدد : 4824
الصفحة : سينما ,

مروان ياسين الدليمي

الحديث عن الفيلم الكندي" EASY LAND" إنتاج 2019 يقودنا الى أن نستذكر بشكل خاطف النهضة التي شهدتها السينما في هذا البلد مع مطلع تسعينيات القرن الماضي،بعد أن كانت لعقود طويلة تقتفي آثار السينما الأميركية منذ بواكيرها الأولى في مطلع القرن العشرين،ولم تتمكن من اللحاق بها كمَّا وجودةً،ولكن بعد مطلع التسعينيات كان جمهور السينما وخاصة المهرجانات على موعد مع انطلاقتها الجديدة،ليقف أمام سينما بدأت تتشكل ملامحها الخاصة في التعبير عن التنوع الإثني الذي يميز هذا البلد .

حركة الكامرة وقلق الشخصيات

في الشريط السينمائي " EASY LAND " للمخرجة الكندية ذات الأصل الصربي سانجا زيفكوفيتشاننا نحن أمام حركة كامرة تتسم بالقلق في عديد من مشاهد الفيلم، فقد حرصت المخرجة على أن تكون الكامرة محمولة وليست مستقرة على حامل " holder" وهذا الشكل من التعامل الفني مابين الكامرة والموضوع، غالبا ما يتعامل معه مخرجو الأفلام الروائية بحذر شديد،ويتجلى ذلك عندما يسعون الى ملامسة الواقع،ومن هنا لجأت إليه زيفكوفيتش لأجل أن يصل الى المتلقي الإحساس الداخلي الذي تعيشه شخصيتا الفيلم الابنة نينا التي مازالت طالبة في المرحلة الثانوية (اداء الممثلة نينا كيري) والأمّ جاستا المهندسة المعمارية والزوجة المنفصلة عن زوجها (أداء الممثلة ميريانا جوكوفيتش)وقد اضطرت الى أن تهاجر من بلدها صربيا نحو كندا مع ابنتها خاصة بعد أن عانت تجربة نفسية صعبة بسبب الحرب التي كانت مشتعلة في مطلع تسعينيات القرن الماضي بين الصربيين والبوسنيين،فتركت أثراً سيئاً عليها وبدا ذلك واضحاً في ما كانت تعانيه من متاعب نفسية إضافة الى إصابتها بمرض عقلي،جعلها في بعض الأحيان تتحدث مع نفسها،كما لو أنها تتخيل أشخاصاً أمامها وتتجادل معهم،وما زاد من تركيبتها المعقدة وجعلها تبدو في حالة اضطراب شديد عجزها عن الحصول على وظيفة تناسب اختصاصها،باعتبارها مهندسة معمارية،فتضطر تحت ضغط متطلبات المعيشة المكلفة في كندا وتراكم ديون إيجار البيت الذي تقيم فيه مع ابنتها الى أن تعمل موظفة خدمة في مكتب للتصميم تديره امرأة يبدو عليها التسلّط وعدم الاهتمام بالاخرين الذين يعملون لديها،وتضطر جاسا الى ان تسلم جسدها لمدير احدى الشركات العقارية حتى يساعدها في تبني مشروعها لبناء مجمع سكني يجمع اللاجئين اسمته "EASY LAND"ورغم الثمن الذي دفعته إلاّ أنها لم تصل الى مبتغاها وفشلت في تحقيق حلمها وتغيير حياتها بما ينسجم مع إمكاناتها،فتزداد حياتها الاجتماعية والنفسية تعقيداً،ولم تعد تنفع معها الحبوب التي تتناولها يومياً لمعالجة مرضها،فما كان منها الاَّ أن تبتلع جميع مافي العلبة من حبوب في محاولة منها للانتحار،لكن ابنتها تصل الى البيت في اللحظات الأخيرة وتستدعي سيارة الإسعاف ويتم إنقاذها.

أزمة الجيل الشاب من المهاجرين 

الابنة نينا هي الأخرى غارقة في جملة مشاكل مع عدد من زملائها الطلبة في المدرسة الثانوية،لكنها تختلف في بنية شخصيتها عن والدتها،فهي تمتلك قدراً من الصلابة والعناد في شخصيتها ما جعلها لاتنهزم بسهولة،ولأجل توفير مصروفها الشخصي تتعامل مع اشخاص ينشطون في أعمال غير مشروعة بعيداً عن أعين الرقابة الحكومية وذلك بالعمل على تسويق هواتف خليوية مستعملة،إلاّ أن انشغال ذهنها بما تعانيه والدتها من أزمات نفسية واقتصادية وعقلية أربك وضعها الدراسي،وجعلها تتخلف عن زملائها في المستوى العلمي،فتتلقى تهديداً من الإدارة بأنها ستواجه مرحلة صعبة إذا لم تبذل جهداً،ولكن حياتها تواجه منعطفاً مهماً عندما أوعزت لها إدارة المدرسة بان تلتحق بفرقة مسرحية تتعاون معها الإدارة في مشاريعها المسرحية ،لتكون ضمن فريقها الذي يستعد لتقديم مسرحية للمؤلف صموئيل بيكت،ومن الواضح أن اختيار نص مسرحي للكاتب بيكت ليكون ضمن حبكة السيناريو يأتي دعماً للفكرة المحورية التي تدور حول إظهار مشاعر اغتراب الأم وابنتها في الوطن البديل.

تنجح الابنة نانا في أن يكون لها موقع في إدارة الفرقة بعد أن تلفت انتباه المخرج الى ما تمتلكه من رؤية تتسم بالذكاء في ادارة مشروع العرض،رغم انه لم يكن مقتنعاً بها في أول أيام دخولها الى قاعة التمارين،وعلى إثر ذلك تبدأ تستعيد ثقتها بنفسها وبالمكان الذي وجدت نفسها فيه،بعد أن كانت قد عبرت صراحة لوالدتها عن نيتها بالعودة الى صربيا لتعيش مع جدتها،لكنها تستعيد أملها في امكانية التأقلم والعيش في البلد الذي منحهما فرصة اللجوء،ومن هذه النقلة الجديدة في مسيرتها،تتمكن من أن تمنح والدتها الثقة والاطمئنان بالمستقبل،فينتهي الفيلم في اليوم الأول لافتتاح العرض المسرحي،حيث تجلس الأمّ وابنتها بين المتفرجين،وعلامات التفاعل والانسجام مع العرض واضحة على الابنة أما والدتها فكانت تتأملها وهي في حالة من الانبساط ،إشارة على أن الجيل الجديد من الممكن جداً أن يعثر على فرصته في حياة جديدة .

استعادة التجربة الذاتية 

يأتي هذا الفيلم باعتباره التجربة الأولى للمخرجة سانجا زيفكوفيتش في إخراج عمل روائي طويل بعد أن كانت قد قدمت عام 2016 فيلماً قصيراً بعنوان "كليو" تدور أحداثه أيضاً في حي يسكنه المهاجرون،لكنه لم يكن على تلك الدرجة من العمق في تناول الجوانب الداخلية للشخصية المهاجرة،إذ بقي ملامساً للموضوع من الخارج،لكنه يعد تجربة مهمة في مسيرتها المهنية،فكان بمثابة تمريناً لدخول عالم إنتاج الافلام الروائية الطويلة وهذا ما صرَّحت به في أكثر من حوار أجري معها،حيث أشارت الى أنها كانت عازمة على تحقيق هذا الحلم في أقرب فرصة بعد الانتهاء من فيلمها القصير.

تشكل موضوعة المهاجرين قضية جوهرية بالنسبة للمخرجة ساجا،لأنها عانت منها شخصياً في سنواتها الاولى،باعتبارها صربية مهاجرة الى كندا،في مطلع تسعينيات القرن الماضي مع عائلة كبيرة ضمت الأمّ والأب والجدّة والأولاد،فاستثمرت تجربتها وأعادت صياغتها بقالب جديد أثناء كتابة السيناريو،ولهذا بدا الفيلم في جانب منه أشبه بحبكة درامية عائلية،إلاّ أن أسلوبها في السرد دفع بالفيلم الى أن يبتعد عن الانكماش في حدود هذا الإطار الدرامي العائلي ولينتقل الى مستوى أعمق،وذلك بالنفاذ الى داخل عوالم الشخصيات النفسية،وهذا ما قاد السرد الى أن يمارس دوراً أقرب الى مهمة التحليل النفسي.

رؤية واقعية 

وفي ما يتعلق بالإطار الجمالي فقد تكشفت القدرات الخاصة للمخرجة في اعتمادها على بنية واقعية لم تذهب بها الى منطقة التخيلات التي تتيحها تركيبة الشخصيتين الرئيستين،وهذا الخيار الجمالي في بناء الصورة قد عزز رؤيتها الواقعية لما يعانيه المهاجرون،ومنذ فيلمها الأول كان لديها تصميم واضح على أن تتصدى لهذه القضية،من غير أن تبتعد في رؤيتها عن الواقعية كاسلوب في التناول لما تحتفظ به الواقعية من تكنيك قادر على ّكشف أزمة الشخصيات من غير الانحياز الى إيجاد مقاربات افتراضية تستمد بنيتها المتخيلة من لامنطقية البناء السردي في الأحلام والتخيلات،ووفق هذه الستراتيجية في رؤيتها الفنية كانت كامرتها منساقة الى إغراءات الواقعية في رصدها للمكان الذي تتحرك فيه الشخصيات،ومن غير أن يكون هناك استعراض ومبالغة وإفراط في الحركة،كما لو أن الكامرة جزء من الشخصيات الواقعية،وعادة ما نشعر بمثل هذا الإحساس في الأفلام التسجيلية حيث تتحول الكامرة الى كيان مرتبط بالشخصيات وليس منفصلاً عنهم فلايشعرون بوجودها وحركتها رغم أنهم يعيدون أداء دورهم الواقعي أمامها،ولكنها في هذا الفيلم لم تنخرط بعيداً في هذا الدور،إذ حرصت على أن تبقي لدى المتلقي إحساسه القوي بأنه أمام فيلم روائي وليس فيلماً تسجيلياً،وهذا الحد الفاصل مابين البنيتين الجماليتين لهذين النمطين من الأفلام لم يكن محسوساً،بمعنى أن المخرجة كانت تلعب دورها في إطار استدعاء التجربة الواقعية التي عاشت تفاصيلها،بما تحمله من مشاعر وأحاسيس تعيشها شخصية اللاجىء خاصة في السنين الأولى من وجوده في وطن اللجوء،والتي تتجسد فيها لحظات تأرجحه مابين البقاء او الرجوع،فالنموذج الهندسي المصغر لمبنى اللاجئين الذي صممته الأم كان يمثل حلمها وامالها في مستقبل جديد، لكنها وجدته يتحول الى وهم عندما يتم رفضه،فما كان منها إلا أن رمته في مخزن البيت مثل بقية الأشياء المستهلكة ولم يعد منها نفع.

الأداء التمثلي 

لابد من أن نتوقف عند أداء الممثلتين الرئيستين،فالممثلة نينا كيري التي أدت دور الابنة ،ولدت خلال الحرب التي شهدتها صربيا عام 1992 ثم انتقلت مع عائلتها إلى فانكوفر في كندا وبدأت خطواتها الأولى في تجربة الأداء داخل المسرح المدرسي بدءاً من العام 2007 ،وعلى شاشة التلفزيون كان أول دور لها في فيلم قصير عام 2011 ،ثم تعاونت عام 2016 مع زميلتها المخرجة الكندية الصربية سانجا زيفكوفيتش في الفيلم القصير "كليو" ،بعدها تابعت عملها على الشاشة في ثلاثة أفلام لعبت فيها الدور الرئيسي فنالت جائزة أفضل ممثلة عام 2017 في مهرجان الفيلم الكندي ثم شاركت في مسلسل تلفزيوني منحها شهرة وشعبية كبيرة في كندا،فاستعانت بهذه الخبرة التي اكتسبتها في هذا الفيلم حيث بدت على درجة عالية من الاحتراف وهي تتحرك أمام الكامرة وتؤدي دور فتاة تحمل نزعة قوية للتمرد ،رغم ما تعانيه من إشكالات في حياتها الاجتماعية مع والدتها ومع محيطها داخل المدرسة.

أما الممثلة ميريانا جوكوفيتش التي أدت شخصية الأم فهي أيضاً من أصول صربية،حيث ولدت عام 1967 في الجبل الأسود المدينة التي كانت إحدى جمهوريات يوغوسلافيا الاشتراكية الاتحادية قبل أن تتشظى الى عدة جمهوريات منفصلة،وكانت قد تخرجت من أكاديمية الفنون المسرحية في بلغراد وبدأت التمثيل عام 1979 في المسرح القومي ومسرح الدراما اليوغسلافي،وفي عام 1993 هاجرت إلى الولايات المتحدة ولم تنقطع عن التواصل والعمل في الأفلام الصربية إذ نالت جائزة أفضل ممثلة عام 1994 في فيلم سينمائي حمل عنوان" Vukovar "وفي عام 1995 شاركت في دور رئيس بفيلم" Underground "من إخراج الصربي امير كوستوريكا،الذي سبق أن نال جائزة مهرجان البندقية عام 1981 وجائزة مهرجان كان عام 1995 وتعد الممثلة"ميريانا جوكوفيتش"من أهم الممثلات الصربيات،وإضافة الى امتهانها لمهنة التمثيل في السينما والمسرح فهي تعمل مدربة لفن التمثيل في إحدى الجامعات الاميركية بعد أن نالت شهادة الماجستير،فلاغرابة إذا ما جاءت تجربة الأداء في هذا الفيلم على هذا المستوى من النضج والحيوية والاحتراف .