فـي معرض أرض ماء، فـي مدينة باليرمو بصقلية..تاريخ البحر المتوسط وصراع الحضارات الإنسانية

Sunday 20th of December 2020 06:41:30 PM ,
العدد : 4835
الصفحة : عام ,

باليرمو: موسى الخميسي

قامت مؤسسة" فريدريكو الثاني" للأعمال البحثية في مدينة باليرمو عاصمة إقليم جزيرة صقلية الإيطالية معرضاً كبيراً ،

يضم 324 قطعة من المجسمات البلاستيكية والتحف الأثرية القديمة واللوحات الفنية والأعمال السيراميكية والصور الفوتوغرافية والوثائق التاريخية والخرائط الجغرافية القديمة، إضافة الى ثمانية أقسام متخصصة في تراث الحضارات الواقعة على ضفاف البحر المتوسط، أقيمت في سرادق منتظمة في ساحة" ريال" التي تعتبر من أكبر ساحات المدينة التاريخية، تهدف إلى نقل السياق الاجتماعي والثقافي وأخذ الزائر في رحلة عبر القرون، حتى يصبح جزءاً من هذه التجربة.

عندما يذكر البحر الأبيض المتوسط، فان معاني كثيرة لثلاثة قارات، غربي آسيا وشمالي افريقيا وجنوبي أوروبا ، وعدة حضارات هائلة وراسخة،تمثل بلاد ما بين النهرين ومصر القديمة والكنعانيين والفينيقيين والعبرانيين والقرطاجيين واليونانيين والاخمينيين والتراقيين والاتروسكيين والرومانيين والبيزنطيين والبلغاريين والعثمانيين والمسيحيين والمسلمين.، تعكس ثلاثة أساليب أساسية في التفكير والاعتقاد، لعشرات المجتمعات الثقافية. أولها حضار الغرب التي تمثلها الحضارة الرومانية بالنظر الى روما التي كانت ولا تزال مركز العالم القديم الذي بدأ لاتينياً ثم صار كاثوليكياً ثم امتد ليشمل العالم البروتستانتي، والحضارة الثانية، هو عالم الإسلام الفسيح الأرجاء الذي يمتد من الغرب الى ما وراء المحيط الهندي حتى يبلغ جزر جنوب شرقي آسيا التي غزا المسلمون عدداً منها في القرن الثالث عشر الميلادي فأعتنق أهلها الاسلام.أما الحضارة الثالثة فيمثلها العالم الاغريقي، العالم الارثودوكسي الذي يضم شبه جزيرة البلقان، رومانيا وبلغاريا ويوغسلافيا واليونان ذاتها، بالإضافة الى رومسيا الآرثوذوكسية بمساحتها الشاسعة. وكان مركز هذا العالم تمثله القسطنطينية، روما الثانية، غير أن القسطنطينية غدت اسطنبول عاصمة تركيا منذ سنة 1453. 

عندما نتمعن في صورة البحر الأبيض المتوسط، فإن معاني كثيرة تفد وصورا عديدة تتجمع لعدد من الحضارات المتجاورة والمتشابكة والتي تبادلت فيما بينها عمليات التأثير والتأثر بمختلف العناصر الثقافية والحضارية، وكان ذلك من خلال التعاون في بعض الأحيان وأحيانا أخرى من خلال الصراعات والحروب والاضطرابات التي تجمعت على سواحل هذا البحر الذي تعكس مساحته الجغرافية الكبيرة، صورة كبيرة ومعقدة تجمعت فيها حياة موغلة في القدم ومازالت تنبض جنباً الى جنب مع صور جديدة من حياة تستجد يوماً بعد آخر.فقد كان البحر المتوسط الغربي المفتوح على التأثيرات القادمة من الحوض الشرقي، يستخدم كمحطة تبادل تجاري ،ولا يزال الى يومنا هذا، فقد كان لنفوذ التيارات المنطلقة من البحر المتوسط تأثير فعّال على مناطق وأقاليم في كل أنحاء العالم.

يرصد معرض " أرض وماء" بالصور والخرائط والوثائق والنماذج الحية والبلاستيكية ، ميزات التاريخ الجيولوجي لكل الأراضي التي تحيط بالأرض الصلبة والصخور التي تشكل سواحل سواحل البحر، التي بنت حضارات مختلفة لترسم ملامحها، عبر ما يتراوح بين ستة الآف وعشرة الآف من السنين هي عمر الوجود الإنساني على ضفاف هذا البحر، الذي شهد عمليات البناء الحضاري التي حدثت على هذه الأراضي ،مع مرور الزمن وتحديد عمرها، واستعراض التاريخ التطوري والمناخات الماضية لهذا الحوض الكبيرالذي تحيطه الأراضي الخصبة والجبال والسهول على مر العصور، وأهم المراكز الحضرية التي بدأت بالظهور في العصر النحاسي في الألفية الخامسة الى الألفية الرابعة في بلاد مصر وفي بلاد ما بين النهرين، ومن ثم العصر البرونزي ، وتطور الحضارات في الهلال الخصيب، واستعراض أنظمة الكتابة بحلول منتصف الألفية الثالثة في بلاد ما بين النهرين، وكيف أدى ذلك الى تطوير الإمبراطوريات المبكرة مثل الحيثية والمصرية على السواحل الشرقية للبحر المتوسط، التي تنافست للسيطرة على دول المدن في بلاد الشام( كنعان) ، ثم العصر البرونزي والحديدي، وتقديم نماذج لمهمات التنقيب عن المعادن والهيدروكربونات، وتقييم الموارد المائية، وتشخيص المخاطر الطبيعية والبيئية .

ركز المعرض على الاختلاط الجغرافي والتقارب المكاني، حيث خصص لها المعرض جانباً كبيراً من المعروضات والوثائق والخرائط الجغرافية، وعلى رأسها نموذج للكرة الارضية التي قام بعملها أعظم الجغرافيين في زمانه ، وهو الشريف محمد الادريسي(1100ــ1166) الذي استدعاه حاكم صقلية النورماني ( رجار الثاني 1111ــ1154) وأمر أن تفرغ له حسب ما أراد كرة كبيرة ، تزن 400 رطل، من الفضة الخالصة، رسم عليها الإدريسي الأقاليم السبعة ببلدانها وأقطارها وسبلها وريفها وخلجانها وبحارها ومجاريها ومنابع انهارها، وطلب الملك من الأدريسي أن يضع كتاباً عن هذه الكرة الأرضية، فألف هذا العالم الجغرافي كتابه الشهير" نزهة المشتاق في اختراق الآفاق". الفلسفة، بالكتب والمخطوطات والمنحوتات، هي الأخرى تحتل موقعاَ متميزاً من الاهتمام في المعرض ،لما لعبته من دور مهم في تشكيل ثقافات شعوب البحر الابيض المتوسط ، التي بدأت في بلاد اليونان ، فكانت في البداية تشمل العلوم والفنون جميعاً ،من منطق وقيم وأخلاق واقتصاد وسياسة وأدب وشعر وفن، ومن الأساطير الأغريقية الى الموسيقى، ومن الاختلاط الجغرافي والتقارب المكاني للشعوب ، الى الاستعمار اليوناني والفينيقي، إلى التجارة والعولمة والحضارة والحروب.

في إحدى قاعات هذا المعرض الكبير، تم التركيز على الصناعات الحديدية البدائية بتسلسل تاريخي، حيث الأواني ومعدات وأسلحة، جنبا الى جنب النماذج البلاستيكية، كيفية انتشار الحديد ببطء في أوروبا، والحقيقة أن شعوب الشرق الأوسط وآسيا الصغرى والحيثيين خاصة عرفوا المعدن الجديد الذي لم يبلغ اليونان ثم أوروبا الوسطى قبل منتصف الالف الثاني او نهايته، وغالبا ما كان يستخدم الحديد، كمادة كمالية، استخداما استثنائيا، في تقوية حد السلاح او عدة ما او ينزل في البرونز على شكل زينة، وعلى كل حال تصبح الادوات اكثر فعالية واقل كلفة ويستخدم البرونز والذهب لصنع الكماليات والزينة بشكل خاص.

يوضح رئيس المؤسسة، "جان فرانكو ميتشيشي"، أن معرض " أرض ماء" هو أكثر من مجرد لحظة فنية وثقافية، ( فمن جديد تصبح ساحة" ريال" رمزا للتعايش بين شعوب البحر المتوسط، وأنه يمكن من خلال الفن والجمال إظهار التعايش السلمي بين الشعوب من مختلف الثقافات والأديان، ومثال ذلك ماحدث خلال العصر الهلينستي، أي في القرون الثلاثة التالية للاسكندر الأكبر الذي خرج غازيا في سن العشرين، ليحقق مبدأ " العالم وطن واحد" مما أدى الى انتقال واضح لمركز الثقل الحضاري في التطور الفني الكلاسيكي من اليونان الى الشرق المزدهر بالحضارة البابلية والفرعونية والفارسية، ومع ذلك فقد كان للمؤثرات المتبادلة دورها طوال الوقت بحيث إننا نجد أنفسنا لأول مرة في تاريخ البشرية إزاء حضارة كانت خليطاً حقاً حيث انمحت الحدود الفعلية من خلال التواصل والمزج، وذابت الفوارق للعالم القديم. وهناك نموذج آخر أكثر حداثة، يتمثل بما قدمه عصر النهضة في القرنين الخامس والسادس عشر للانسانية). 

وبعيداً عن الحروب والنزاعات، فإن البحر المتوسط يشكل بيئة فلسفية فكرية قادرة على تأكيد نفسها كعنصر استباقي نحو الحرية.

وهذا ما يبينه "ميتشيشي" بقوله " أن المعرض لا يهدف أن يكون فقط مكاناً لعرض الاكتشافات، بل تقديم قصة حقيقية عن روح البحر المتوسط، من العصور الأولى وحتى الآن".