الحضور اليومي للأسطورة

Monday 11th of January 2021 08:03:28 PM ,
العدد : 4849
الصفحة : عام ,

ناجح المعموري

الأمّ الأولى قادت الحياة واقترحت ما لم يعرفه أحد من قبل . وكانت جوهرة الكون التي لوثتها السرديات التوراتية ،

مارست سطواً على الأصل السومري لأسطورة التعارف الأول بين آدم وحواء وبينهما النخلة . وسجلت الختم السومري هذا ابتداء الأصل العراقي للسردية التوراتية الكاذبة . وقدمت اعتماداً على العقل وتنوعات خزانات المخيال نوعاً من التأويلات الكثيرة التي اخضعتها لنوع من جدل التأويل أو اشتباك الصراع . ومثل هذه الدراسات هي تمظهر عن ثقافة عميقة وتنطوي على ذكاء

قاد الوحدات الأسطورية الى عتبة واحدة ، لملمت شبكاتها ، الرمزية ، ووحداتها الطقوسية التي قادت أخيراً للتوصل الى الأصل الحيوي الذي يعرفه الكثير ، لكنهم غير قادرين للوصول الى أمومية الأصل السومري . أنا قرأت في مجال النقد التطبيقي كثيراً وسحبت التأويل للأسطورة على الشعر والسرد والفن الفوتوغرافي ، لأني واثق وليس مقتنعاً بأن الأسطورة في مبدأ الأدب ولكنها أيضا في منتهاه وهذا الذي قاله أبو رخيس اختصر كينونة الأسطورة في بنية لا تنفك ، بل تتكاثف مع مجالها ، وهما المبتدأ والنهاية أنا استغرب من الأخ عبد الكريم السامر ، لأنه اهتم بالنقد الأدبي مع لمحات سريعة عن الجمالية والذوقية لكنه تجاهل كلياً الأسطورة وحفرياتها ؟ وانا واثق بأنه يعرف جيداً بأن للأسطورة حضوراً بصرياً وهذا ما فعله السياب الذي عرف بوقت مبكر بأن الشاعر الحقيقي إذا أراد أن يكون شاعراً ممتازاً ، عليه أن يتخذ الأساطير مادة له . وهذا ما ذهب إليه السياب ولكن لي ملاحظات حول استثماره للأسطورة . مقولة سقراط على الذهاب للأسطورة ، حكمته التي ألمح لها لاحقاً هيراقليطس وكونها بالزمن ، بمعنى تواجدها في عمق الشفوي وارتحاله الى الذاكرة ، أي المكتوب كما قال د. محمد عجينة الذي أكد بحماس على أن الأسطورة هي أصل الحضارة ولا وجود آدمي بمعزل عن الأسطورة حتى الأدب لا سيرورة له بعيداً عن الأدب ، لأنه تشكل وسط الميثولوجيا وأعاد الأدب صياغة ما رغب بها ، لكنه لم يستطع التخلص من التماع الأسطورة المتشذرة في النص ، وقال الأستاذ د. محمد عجينة " إن الأسطورة شكل سردي وتختلف في ذلك عن الرمز أو الصورة الرمزية وليس فيهما سرد . ولكنها ليست نصاً مغلقاً ثابتاً رغم سمته التكرارية ، بل هي قصة محكوم عليها بأن لا نهاية لها ، أي لا نهاية لتحولها . نظرياً على الأقل ، طالما بقيت تتثاقل مشابهة قصة محكوم عليها بأن تكون مرويا للمفارقة ذاتها وغيرها في آن واحد / د. محمد عجينة / حفريات في الأدب والأساطير / ص35//

للأسطورة حضور مهيمن في الأدب وفي السرد دوران تتحكم به الشخوص السردية التي تشرح هذه المهمة وكأنها الشخوص موكولة لها الوحدات التاريخ / المرويات ، ذات الشعرية ، وكأنها تومئ لحلقات التاريخ التي هي سرديات وشعرياته لذا التقتت الدراسات الشعرية مؤخراً للتاريخ وحفرت فيه ما كان غائباً والدليل على ذلك .

الشعرية التي ابتدأت الحديث بها ، هي التي تفضي الحوار نحو التاريخ وهو الذي أوضحته دوريته الجغرافية ، لانها لن تكون بصفتها هذه بمعزل عن محكيات التاريخ الذي يعني وقائع وأحداث الأفراد والجماعات وهي كما قال علي حرب لعبة المعنى الطويلة ، التأويل ، الحفريات والبحث عن المضمر والغائب والمسكوت عنه والتي تشكل معاً محكيات مصاغة من قبل الإنسان وقد تتغير أحياناً وخصوصاً سرديات الجماعات البدئية التي تستجيب للتغيير والتحول ، لكنها تظل محتفظة بالروح الشفوية كما قال د. محمد عجينة وهذه المتحولات لا تتنزع اطارها الميثي ، بل تحتفظ بصفتها المحكية وتمركز رموزها أو صورها الرمزية / د. محمد عجينة / ص39//

علاقتي النقدية مع السرد ، ليست بعيدة عن الأسطورة ، أو محكيات التاريخ ، بل هي وثيقة ، استنبت فيها ما اريد الوصول اليه ومعأودة الحفريات العميقة . لأن الشعرية صعود نحو حلم لابد من العثور عليه وتكشف الأسرار التي ذهب نحوها علم النفس . لذا دائماً ما تواجه القراءة حفريات سهلة وفي أحيان أخرى معقدة ، والتوزع بين السهل والمعقد مكامن السحريات والسريات والرموز المانحة للسرد كل ما يفضي باتجاه السلم والإيمان ، لأن سرد الأسطورة باق في حضن مجازاتها ورمزياتها المتنوعة بدلالاتها ومن قرأ على زيعور ، سيكتشف الاندهاش بالتأويل الذي يصل الى جديد وغير معروف من قبل ، لأن تأويلات علم النفس والانثربولوجيا تصعد ولا تخفض صوتها بسبب المثار المتكتم عليه في وحدات النفس العديدة وتقشرات الميثات . ومثلما قال د. علي حرب : الإنسان إذا كان يعرف بوصفه يرمز ويتكلم ، فان الرمز يحيل دوماً الى الغائب ، كما أن التصور الكلي يحيل الى المأوراء . فمن مميزات الإنسان أن يبتكر بواسطة الحروف والكلمات عوالم رمزية . أي عوالم أخرى ، يقرأ من خلالها وجوده . إذ للكلام بعده الدلالي وبالدلالة يعطى البشر معنى لوجودهم . كما يهبون الأشياء والكائنات معناها أيضاً . فالانسان خالق الدلالات ومولد المعاني . والمعنى يفترض وجود ذات ، ويحيل الى المتعالي ، أما المواضيع فهي صماء ، ووحدها الذوات المتعالية قادرة على الخروج بالوجود من اسر التفاهة والرتابة الى افق الدلالة وميراثها ورحابتها / لعبة المعنى / فصول في نقد الانسان / بيروت / 1991/ ص108//

والحلم هو خصائص الكائن البشري منذ لحظات ابتداء الخلق والتكوين وأنا اعتقد بأن التحولات والتطورات والسيرورات هي عبارة عن أحلام ، بمعنى هي حلقة متواصلة من النمو الحياتي واستكشاف ما هو مطلوب ، نظراً للحاجة التي يجد الكائن نفسه بحاجة قصوى اليها ، لان المرحلة الموضوعية فرضت المطلوب وهكذا تخضع حياة الانسان للضرورات . ومثلما قال المخرج المشهور فلليني " الأحلام هي الحقيقة الوحيدة في الحياة " ولذا أنا دائماً ما اذهب نحو الأسطورة باعتبارها وحدات سردية محكومة برابط مشترك يمسك بسردياتها وتصير حلماً إنسانياً ودائماً ما تكون أحلام الأسطورة شفوية ، هذا ما عرفته الأفراد والجماعات واعتادوا تدأولها وخضعت لسيرورة وتشكلت لها انتظامات استعارت نوعاً من الايقاع المتسيد في الحياة ضمن فعاليات الطقوس والاضفاءات . وضمن هذه التنوعات ، اتسع السرد في الأسطورة ووحداتها وعناصر وظلت تتقشر حتى ارتضت ان تكون حكاية ، لم تتمكن من نزع صفاتها الميثية . هذا ما يعرفه الباحث المتابع للاسطورة في النص الأدبي الشعري / السردي . وهو كذلك في التشكيل حيث يتبدى المبدع بدائياً واكثر ثقافة ، أكثر هدماً وأكثر بناءً ، وأحياناً أكثر جنوناً كما قال فرانك بارون . 

الأسطورة تأخذ الفاحص الى المجهول ، البدئي ، غير المعروف والمألوف . وهنا مكمن السرية والسحرية ، الحقيقة والجمال هذا التداخل هو الجمال الذي تحتضنه الأسطورة وتتباهى به واهدته الى المتصوف ، المجنون والعاقل ، الفنان الذي يرسم كل في حياته شعراً .

في السرد تمظهرات الأسطورة أعقد وأكثر صعوبة مثلما هي التشكيل ، لكنها في التشكيل واضحة ، لأنها مانحة رموزها وهي مفاتيح بيد المتلقي وكما قال د. محمد عجينة : إن السرد شكل سردي . والرمز فيه مثلما الصورة الرمزية بعيدة عن السرد ، لانهما متكتمان ولا ينكشفان عن محكيات لمحات ، بروق ، شفرات وجودها ضمن السياق السردي أو الوحدات السردية يمنحانها طاقة كشف بواسطة الحكي . وأكد د. محمد عجينة : استحالة الأسطورة من حكاية الى مجرد رمز أو صورة رمزية . عندما تفقد الأسطورة صفتها السردية أو تنفجر الى وحدات في شكل فسيفساء فانها تتقلص الى مجرد رمز ، وقد تجمد في شكل تمثال أو توحد في شفرتين شأن " اساف ونائلة " ونلاحظ في هذه الإشارة التي قشرناها من تفاصيلها الشائعة أن ثنائية العاشقين الذين زأولا الجنس المقدس في الكعبة مسخهما الله وغادرا معاً الدينوي وتكرساً في المقدس . لان الأسطورة والدين بشكل عام متخندق في الأسطورة التي لا تتنكر أبداً عن الحكاية المضمونة فيها بوصفها مقدساً . ومثل هذه الحكاية متسترة على حقائق يدنو إليها الكائن ولكن بصعوبة وفيها عصف من الجمال والسحريات والشعائر .