فرجينيا وولف وتأنيثُ النّسق في رواية ( بين الفصول)

Sunday 17th of January 2021 06:55:28 PM ,
العدد : 4853
الصفحة : عام ,

موج يوسف

فصلُ الصيفِ هو الزمن الذي بدأت فيه رواية بين الفصول للقاصّة والروائية فرجينيا وولف ، وتعدّ هذه روايتها الأخيرة كتبتها قبل أن تُغادرَ عالم الإنسان ،

 وقد صدرت عن دار المدى ببغداد . وتناوبت الفصول الأربعة مع تقلّب النّسق الثقافي ، ومردّ هذه التقلّبات النّسقية يعود إلى طبيعة المنهج الذي ابتدعته وولف هو ( تيار الوعي) . قد يتبادر في ذهن القارئ تساؤل ماذا نعني بهذا التيار؟ يمكن أن نوجزه بإنَّه : مجموعةٌ من القصصِ يركزُ الروائي فيها على مستويات ما قبل الكلام عند الشخصية ، ويهدفُ إلى كشف الكيان النفسي في الشخصيات ، والقارئ لروايات وولف يلحظ أن لكلِّ شخصيةٍ حوارين الأول داخلي والآخر خارجي ، ويطلق على الأول ( المونولوج الداخلي) وهذا الأخير ارتبط بالسينما والمسرح ؛ لذلك يمكن القول : إنَّ هذه الرواية جاءت حبكتها الأساسية في المسرحية التي كتبتها إحدى شخصيات الرواية من النساء ، وقد وردت في المسرحية عدة أنساق ثقافية في طليعتها شخصية الفتاة الشابة في المسرحية التي مثّلتْ دور ( رمز العقل) وهذا أهمُّ نسق وظّفته الروائية ؛ لتلغي الجنسانية بين الرجل والمرأة في الفكر، و في النّص الكتابي ومن ثمَّ أمام الجمهور. وبإلغاء هذا التميز الجنساني الذي فرضته الكنيسة أو الدين الذي أعطى فرصة أكبر ؛ ليكون أصحاب الفكر والفلسفة هم الرجال وجاء هذا النسق عبر شخصية ــــ ممثِلة رمز العقل ــــ في المسرحية بمثابة الهجوم على (سلطتي الكنسّية والثقافة المجتمعية ) التي عزلت المرأة عن الريادة الفكرية . الأمر الآخر إن الكاتبة وولف عندما وظّفت الفتاة الشابة بهذا الدور مع سمات الجمال وقد رأت أن استقطاب الجمهور لا يتمّ إلا بهذا التوظّيف و عبر المزاوجة بين (الجمالية الفكرية) بمعنى الجمع بين المظهر الخارجي والفكر الداخلي فكانت ممثلة رمز العقل واعية وذات فلسفة عميقة عندما مثّلتْ المشهد الأخير الذي قالت فيه : ( إنَّ جعبة إله الحب ممتلئة بالخدع ؛ يغرز سهمه في القَدَم ، لكنَّ دربَ الإرادة واضحٌ على الدوام حيث توجد الإرادة يوجد درب) ص 121 . الإرادة التي أكدت عليها هي بالمفهوم الفلسفي ، وهذا الأخير شكّل جدلاً واسعاً عند الفلاسفة الإغريق إلى عصرنا هذا ؛ كونه أرتبط بالحرية وصار يطلق عليه ( الإرادة الحرة) وهذا ما جعله يرتبط بنظرية أخرى هي ( الحق الإلهي) وثيمتها الأساسية: ( إن الله قد أودع جميع السلطات بيد البابا الذي معه سيف السلطة الدينية) . فجاء نسق تأنيث العقل بشخصية رمز فتاة العقل لتؤسس نظرية الإرادة الفلسفية وتنطلق من الفكر الذي تبتكره الأنثى ، لكنّ قبل الإبتكار تحاول تفنيد النظريات السابقة والخروج منها أو الثورة عليها وهذا لا يأتي بشكل اعتباطي وأنما من ممارسات تؤهلها لمرحلة تأنيث الفكر بالجمع بين السلطة السياسية والفلسفة بيد المرأة وهذا ما أكدته شخصية الأنسة ( لاتروب) التي وظّفتها الروائية لكتابة تلك المسرحية وقد قالت ذلك عبر الراوي العليم مكررة هذه الثيمة عندما رأت تأثير المسرحية على الجمهور وهي خارج عتبة المسرح : ( كان يمكن أن أكون كيلوباترا ـــ ويشرح ما تقصده الراوي العليم ــــ كانت تقصد أثرتِ فيَّ دوراً لم أمثّله) ص 125 . وهذا نسقٌ آخر يظهر بتوظّيف الملكة كيلوباترا التي عُرفتْ بجمالها وموهبتها عندما استعادتْ أمجاد عائلتها الحاكمة ، وسعتْ إلى بسط السلام ، والعدل ومكافحة الفساد . فالذي تريده وولف بهذا النسق المزاوجة بين (الحكم والفكر) بيد المرأة وهذا ما يؤسس لنظرية التأنيث للكون والكينونة ، ومن الممارسات الأخرى التي لتأنيث النظرية الفلسفية وإنشاء جمهورية الفكر الأنثوي لابد من ثورة أخرى ؛ لتصل المرأة إلى دفة حكمها وهي ما يمكن أن اطلق عليه (الإلحاد بالتاريخ) وقد أوردته الكاتّبة وولف عبر شخصية السيدة ( سويذن) والتي قالت عن بعض مشاهد المسرحية في تجسيّدَ مشهد عن العصر الفيكتوري قائلة( أولئك الفيكتوريون . ثم قالت وهي ترسم ابتسامتها الصغيرة القديمة: لا أُصدَّق أن أولئك الناس كانوا موجودين فعلاً. فقط أنا ووليم نرتدي ملابس مختلفة. قال وليم :( أنتِ لا تؤمنين بالتاريخ) ص 141. التأسيس لفكرٍ مستقلٍ ، وفلسفة بعيدة عن الآخر السلطوي لا يتمّ هذا الا عن طريق الإلحاد بالتاريخ وإعلان موته وهذا ما يخلق الإبداع ويخرج من عباءة التقليد والإتباع . وما يلفت الإنتباه عند استعمال نسق تأنيث الفكر وظّفتْ الروائية رمز العقل بشخصية الفتاة الشابة ، وعند إعلان موت التاريخ جاء عن طريق شخصية السيدة سويذن . وهذا يعني أن الخروج من الماضي لا يمكن أن يتمّ الا بعد أن يعلن انتحاره أي الماضي نفسه ينتحر . لكن المفارقة التي وضعتنا بها كاتبة المسرحية الآنسة (لاتروب) بعد إكمال مشاهد التمثيل أعطت المسرحية إلى قس الكنيسة ، وهذا ما جعلنا نتساءل لماذا العودة إلى السلطة الدينية؟ وقد نخرج بتأويل ربما إقرب إلى الصواب وهو: إن بعد مرحلة التأسيس لفكرٍ جديد ، وموت الماضي والخروج منه يكون المرء بأعلى درجات النضج العقلي وبهذا يأتي الدين بدورٍ ثانوي ، ويأخذ منحى شخصياً وتجربة فردية لا جمعية. الرواية كانت محاولة لتأسيس ثقافة وفكر وفلسفة بعقل أنثوي وقد ساعد في ذلك منهج تيار الوعي عند وولف ، وعلى الرغم من كونها أخر روياتها لكنّها فتحت آفاقاً تأملية لغيرها من الكاتبات الواعيات .