نانوك ابن الشمال. . كرّس وهْم الحقيقة وأبهرَ الناس طوال 100 عام

Wednesday 20th of January 2021 10:52:46 PM ,
العدد : 4856
الصفحة : سينما ,

عدنان حسين أحمد

لا أحد يُنكر أبوّة روبرت فلاهيرتي للفيلم الوثائقي خاصة بعد إنجازه لإضمامة مهمة من الأفلام الوثائقية مثل "نانوك ابن الشمال"، و"موانا"، و "تابو"، و"رجل من آران"، و "صانع الفخار"، و "ظلال بيضاء في البحار الجنوبية" وما سواها من وثائقيات معروفة كُتب عنها الكثير من المقالات، والأبحاث، والدراسات النقدية، والمراجعات الصحفية

لكن يظل "نانوك ابن الشمال" الذي أنجزه عام 1922م تحفة وثائقية نادرة حتى أنّ مكتبة الكونغرس الأميركية حينما أرادت الاحتفاظ بأفلام "ذات أهمية ثقافيّة أو تاريخيّة أو جماليّة" في سجل الأفلام الوطني عام 1989م وضعت هذا الفيلم المتفرّد بين أوّل 25 فيلماً تمّ اختيارها على وفق المقاييس النوعية المُشار إليها توًا. كما كُتبت الكثير من الأبحاث والدراسات السينمائية عن هذا الفيلم الذي عُرض قبل 98 عاماً يوم كان المتخصصون في الفن السابع لا يفرّقون جيداً بين أنواع الأفلام السينمائية وطبيعة الحدود الفاصلة بين النزعة الوثائقية والروائية.

نتبنّى في هذه المقالة أسلوب النقد التطبيقي الذي نعتمد فيه على مشاهدة الفيلم أكثر من مرة، وما تخلّفهُ هذه المشاهدة من آراء نقدية بعيداً عن الانطباعات الأولى، ومعطيات الدهشة الفورية. فالفيلم الذي بلغت مدته 78 دقيقة ليس وثائقياً بالكامل، وإنما فيه نبرة دكيودرامية ولمسة أنثروبولوجية واضحة. كما ينطوي على "تجسيد" Staging لبعض المَشاهِد والأحداث؛ أي أنّ فلاهيرتي الذي أخذ على عاتقه مَهمة التصوير أيضاً كان يُوقف التصوير ويعيد تمثيل بعض الأحداث من جديد، الأمر الذي يعدّه البعض تزييفًا للحقيقة، واستغفالاً للمتلقي.

سنقسّم مضمون الفيلم إلى أربعة أقسام رئيسة بغية توضيح الوقائع وقراءة مسرح الأحداث Setting قراءة متأنية تكشف عن طبيعته القاسية التي لا يتحمّلها غير الأسكيمو التي تعني "أكلة الطعام النيئ" وسوف تتبدل تسميتهم إلى "الإنويت" وتعني الناس الذي يقطنون السواحل الشمالية للولايات المتحدة وشمال شرقي سيبيريا، غير أن المكان في فيلم "نانوك ابن الشمال" هو شبه جزيرة أونغافا في السواحل الكندية التي يعيش فيها 300 شخص من الإسكيمو بمساحة تقدر بحجم مساحة المملكة المتحدة، وبظروف مناخية صعبة جداً لا يستطيع أن يتكيّف معها إلاّ من خبرَ الحياة المعيشية القاسية في تلك المضارب.

لم يكن الأسكيمو في العام الذي صُوِّر فيه الفيلم منقطعين تماماً عن العالم المتحضر في كندا وأميركا، فعلى الرغم من عزلتهم التي تبدو شديدة جداً إلاّ أنهم كانوا يتاجرون بالفراء مع المدن المجاورة لهم. وكان يسافرون إليها غالبًا بالزوارق ويبيعونها في تلك الأسواق أو يقايضونها بمواد أخرى مثل السكاكين والرماح والحراب. وقد ذهب نانوك الذي جسّد دوره "ألاكاريالاك" إلى أحد المراكز التجارية وجلب معه آلة "الكَرامافون" وقد قدّمه لنا فلاهيرتي كشخص مدهوش بهذة الآلة، وقد انتقلت الدهشة إلى زوجتيه وأطفاله الذين كانوا يبحثون عن الكائنات الصغيرة التي تُصدر تلك الأصوات الموسيقية، بل أنّ إحدى زوجتيه عضّت الأسطوانة في مشهد لا يخلو من الدُعابة. كما رأينا أطفال نانوك وهم يأكلون البسكويت ويشربون زيت الخروع الذي جلبه من المركز التجاري.

تتجلى عمليات الصيد في الأقسام الثلاثة الأولى من الفيلم، ففي القسم الأول نرى نانوك وهو يمخر الماء بزورقه "الكيّاك" بين كِسَر الثلوج الطافية، ويشرع باصطياد سمك السلمون بواسطة الرمح ذي الرؤوس الثلاثة المدببة ويجمع حصيلته من الصيد ويعود إلى بيته فرحًا، منبسط الأسارير.

يضمّ القسم الثاني ثلاثة أحداث مُهمة؛ الأولى قيام ثلاثة أشخاص من الأسكيمو بصيد فيل البحر Walrus، إذ يزحف أحدهم حتى يصل إلى مسافة قريبة من فيّلة البحر ويطعنه بالرمح ثم تسحبه المجموعة إلى اليابسة ويشرع نانوك بذبحه وأكل لحمه النيء قبل أن ينقلوا فريستهم إلى البيت. ويتهم البعض فلاهيرتي بأنّ نانوك قد استعمل البندقية وأطلق النار على فيل البحر الضخم الذي يمكن أن يصل وزنه إلى طنّين وقد نجح المخرج في خلق وهْم الحقيقة أكثر من مرة في هذا الفيلم الوثائقي. كما يصيد نانوك ثعلبًا أبيض الفراء ساحبًا إيّاه من تحت الثلج. أمّا الحدث الثالث فيتمثل ببناء البيت الثلجي Igloo من قطع الثلج الصلبة التي يقطِّعها بسكينه العاجي الحادّ ويبنيه على شكل قبة مستديرة تتضمن نافذة يصل منها ضوء الشمس إلى الداخل حيث ينام أفراد الأسرة المؤلفة من خمسة أشخاص وهم نانوك، وزوجته نايلا، وابنته كونايو، وابنه أليكَو، والقطة كاموك. كما يصنع بيتًا ثلجيًا آخر للجرو الصغير كي يحميه من الكلاب الجائعة.

لا يختلف القسم الثالث كثيرًا عن سابقه حيث يدرّب نانوك ابنه أليكَو على الرمي بآلة القوس والنشّاب كي يُصبح صيّادًا ماهراً مثل أبيه فهو يسدّد على دمية دُب قطبي ثلجي ويصيبه عدة مرّات. كما نرى الأسرة وهي تدخل إلى الفراش المؤلف من طبقات متعددة من الفراء الناعم. يتضمّن هذا القسم أيضًا عملية صيد الفُقمة حيث يكتشف نانوك الثقب في السطح الجليدي الذي تتنفس بواسطته كل عشرين دقيقة. وعندما تصعد إلى السطح يطعنها بالحربة المثبّتة على عصا خشبية ويحاول سحبها إلى الخارج، وبما أنّ قوته العضلية غير كافية لهذا الغرض ينادي أفراد عائلته التي تستجيب بسرعة وتساهم في سحب الفُقمة من تحت الجليد فيذبحها في الحال ويسلخ جلدها ويشرع بتوزيع لحمها على العائلة والكلاب التي كانت تتضوّر من الجوع، ويأخذ الباقي للأيام القادمة التي يقلّ فيها الصيد أو ينعدم تمامًا.

وما إن يهبط الظلام في القسم الرابع من الفيلم حتى يقفلوا راجعين إلى منزلهم حيث تجرّ الكلاب زلاجتهم الثلجية وما عليها من صيد وأغطية. وحينما يكتشف الأب أنهم قد تأخروا في الوصول إلى منزلهم يلوذ ببيوت الناس الذين يحاذون طريق عودته ويقضي ليلته بأمان.

يركّز المنتقدون على أنّ فلاهيرتي قد جسّد عمليتيّ صيد فيل البحر والفُقمة، وأنّ نانوك قد استعمل عيارات نارية وهذا أمر غير مُستَبعد لأنّ الأسلحة كانت متاحة آنذاك ويمكن أن يقتنيها في واحدة من سفراته إلى المركز التجاري. أن خلق وهْم الحقيقة يمكن أن يتم عبر التصوير، وإعادة تمثيل بعض المَشاهد، وأخيرًا بواسطة المونتاج لكن النتيجة النهائية كانت لمصلحة الفيلم الذي أنجزه فلاهيرتي قبل مئة عام تقريبًا. وهذا الوهم يتجسد حتى بواسطة السيناريو الذي يكتبه السينارست بعد التصوير، وأنّ اختياره للمَشاهِد واللقطات هو لتعزيز وهْم الحقيقة التي يريد المخرج أن يكرّسها في ذهن المتلقي. 

لابد من الإشارة إلى ثلاثة مُخرجين عالميّين رسخوا الفيلم الوثائقي في ذاكرة الناس وأولهم الأميركي روبرت فلاهيرتي، والأسكتلندي جون جريرسون، والروسي دزيغا فيرتوف حيث "روّج جريرسون لمفهوم الفيلم الوثائقي كأداة للتوعية والتكامل الاجتماعي" كما تذهب الناقدة السينمائية باتريشيا أوفدرهايدي في كتابها القيّم "الفيلم الوثائقي. . مقدمة قصيرة جداً"، وجريرسون هو صاحب التعريف الذائع الصيت الذي يقول بأن الفيلم الوثائقي هو "معالجة خلاقة للواقع" أمّا دزيجا فيرتوف فيكفيه فخراً أنه أنجز فيلم "الرجل ذو الكاميرا السينمائية" الذي يعدهُ النقاد أكثر إثارة للفكر. وتخلص باتريشيا إلى مسألتين في غاية الأهمية وهما:"أن نانوك قد تضمّن عناصر تصويرية مُستعارة من أفلام الرحلات" وأنّ فلاهيرتي (قد استعمل بنية مشابهة لبنية الفيلم الروائي الشهير "ميلاد أمة" 1915 لدي دبليو غريفيث) الذي شاهده فلاهيرتي قبل أن يشرع في إخراج فيلمه "نانوك"، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.