لقاء الجمعة.. رواية اللا أمكنة

Sunday 24th of January 2021 10:07:22 PM ,
العدد : 4858
الصفحة : عام ,

ياسين النصيِّر

2

ولدت السماوة، كما يقول المؤلف من رحم الأمكنة: “فأخذت السين من السماء، والميم من الماء، والألف من الفرات، والواو من الوركاء، والتاء من التاريخ”،

فانتمى هذا التشكيل اللغوي لمثيولوجيا المدينة كي يكون انتماؤها مرتبطاً بالسماء فهي ليست مجرد تكوين قائم على الأرض، لا تنتمي لشخصيات محددة، بل هي تراكم من خبرة لأجيال الساردين الذين تعاقبوا الحضور في هذه المدينة السماوية. وما زال الرواة يتناوبون الآن بأشكال مختلفة: سجناء سياسيون، ورواة مختبرون، وحكاؤون يمتهنون الغناء، ومدونون يبحثون عن سجلات مدفونة، وسواق التكتك الفقراء كمظهر للحداثة،، ومن خلال الكتابة الروائية والقصصية عنها وجدوا هؤلاء ككائنات لايمكن إطفاء حكايتهم.

فرواية “لقاء الجمعة” تحمل شحنة هذه الكينونة اللامكانية لجماعة سياسية مروية بثيمة بوليسية مضمرة للكشف عن حكايتها الكونية المفقودة،”الماركسية” وما ضياع اللابتوب ثم البحث عنه، إلا تركيبة فنية دائرية لقصة داخل قصة ، تتداخل السماوة بالبادية، حيث البادية السماوية الأكبر هي الميدان الذي سيفصّل الروائي عليه لقاءاته السبعة، لذا فالرواية عبارة عن حكايتين في حكاية واحدة، حكايتان تجريان مجرى متعاكساً: حياة السجناء الحديثة وقضيتهم في الفكر كتوجه أيديولوجي معاصر مستقبلي، وحياة المدينة المتشكلة حروفها المثيولوجية منذ القدم، فكانت ثيمة اللابتوب الذي ضاع وهو يحتوي لقاءات يوم الجمعة، حكاية ثالثة “مابينية” تجمع ثيمة الحكايتين، حينما وجدت طريقاً مباشراً إلى المسرود الفني الحديث كثيمة للتحقيق، عن السرقة، نجد اللابتوب يختفي ونجد أن الشخصوص الذين عاشوا وتنقلوا بين واحات بادية السماوة وفيافيها وسجونها وآبارها ورمالها، هم مجموعات مشتتة؛ بعضها يعيش في الحلم، والآخر يعيش في الاسماء المتعددة، والنوع الثالث يتمثل منقذاً للحكاية من الضياع. تكثفت هذه الشخصيات في أربعة أو خمسة أسماء، كانت كافية للتعرف على تقلبات الأزمنة والتواريخ المتعاقبة السماوية، الحديثة والقديمة. فالرواية التي نحن بصددها،”لقاء الجمعة” هي رواية “تحقيق” وليست رواية شخصية أو رواية عاطفية أو فلسفية أو علمية...الخ، ورواية التحقيق تتطلب مجموعة شخاص محددين يحققون في سبب ضياع اللابتوب،أي ضياع الحكاية، التي تتعلق بحياة وأفكار مجموعة من السجناء الشيوعيين، وهم يتنقلون من سجن إلى آخر قبل أن يستقروا في سجن نقرة السلمان، ليتوزعوا بين”منشقين وهم القيادة المركزية” وأصليين هم “جماعة اللجنة المركزية” وهم عماد وعمود الحزب الشيوعي، وجماعة ثالثة مابينية، فضلت موقفها الذاتي على موقفها المبدئي. لذلك نجد رواية التحقيق لا تشمل الهيكل المنقسم، بل المبنى الدلالي للفكر الماركسي نفسه، حيث تألفت من قصتين: القصة الأولى هي حادثة ضياع القصة التي كتبها الروائي عن السجناء بضياع اللابتوب، والقصة الثانية هي قصة التحقيق نفسه والبحث المضني للعثور على حرفيات تلك القصة الضائعة التي يرتبط وجودها بعودة اللابتوب.وكانت في اللقاءات السبعة في يوم الجمعة. “ وتتمتّع القصة الثانية، قصة التحقيق، بوضع خاص جداً، وليس مصادفةً أن يرويها غالباً صديقُ التحري الذي يعترف صراحةً بأنه بدأ يكتب كتاباً: وهي تقوم، بالإجمال، على شرح كيفية حدوث هذا المسرود نفسه، وكيفية كتابة هذا الكتاب بالذات. القصة الأولى تتجاهل الكتاب تجاهلاً تاماً، أي إنها لا تعترف أبداً بأنها قصة داخل كتاب (اللابتوب)، ما من مؤلّف للروايات البوليسية يسمح لنفسه بأن يشير هو إلى الصفة الخيالية لقصته، كما يحصل في “الأدب”. وبالمقابل، فإن القصة الثانية لا تأخذ بالحسبان واقع الكتاب(اللابتوب) فحسب، بل إنها تشكّل بالتحديد قصة هذا الكتاب( اللابتوب) بالذات.” إذاً نحن بصدد رواية تحقيق، وليست رواية أحداث، ولكي يكون مفهوم التحقيق واضحاً، نستعير من تودوروف مفهومه في شعرية النثرعن المسرود الروائي، حيث يرى أن الرواية تمتلك خصائص كثيرة من بينها أنها تستبطن الحكاية، كل رواية أو نص إبداعي فيه شيء من المحاكاة، وإن اختلفت بنياتها، فالرواية حكاية معاصرة تنفذ بأدوات سرد حديثة، تزيح الأشكال الواقعية المألوفة، وتبني من خلال المخيلة عالمها الفني الخاص، أما الخصيصة الثانية للرواية حسب تودوروف أيضاً ، فهو التحقيق، كل رواية تضمر في بنيتها بينة بوليسية، وأية بنية بوليسية تتطلب مُحقِقاً، صديق الروائي دائماً هو المحقق، ولذلك يختلق أحداثًا وشخصيات وأفكاراً وأمكنة تحقق له الكيفية التي يحقق فيها ما يصبو إليه في عمله الروائي. ويضيف تودوروف شيئاً مهماً لطريقة المحقق الروائي، من أن له طرقتين، لتنفيذ مهمة التحقيق: أما أن يتكلم عن الحدث ويرويه كما لو كان الحدث واقعياً، ويسمي هذه الطريقة الأسلوبية بـ”كلام الحدث”، وأما أن يلجأ إلى الطريقة الثانية وهي الطريقة الفنية، في التحقيق ، وهي طريقة “كلام المسرود”، ويعني بكلام المسرود: الكشف عن كيفية حدوث الحدث، وفي هذه الطريقة لا يروي الروائي المحقق ما جرى، بل يسرد الحدث بلغة فنية وليس بكلام عن الحدث. “إذا كان الكلام –( الحديث عن ألف ليلة وليلة) الحدث معدوداً قبل كل شيء على أنه خطر، فإن الكلام-المسرود هو فن - من ناحية المتكلم، وكذلك هو متعة بالنسبة إلى المتكلِّمين» .

في محاولتنا النقدية هذه، سنلجأ إلى الكلام المسرود، واعتبارنا الروائي محققاً في ثيمة بوليسية مختفية في ثيمة الرواية الأصلية، ليكشف في المسرود الفني عن ملابسات سرقة اللابتوب ومحتوياته، واستبطان الشخصيات وتداخلها، والرؤية المثيولوجية للسمارة؛ أرض كلكامش والحرف والمسلات والتراث، وأرض نقرة السلمان والسجناء الشيوعيين، الأرض اللامكانية الكونية، ثم صهر هذه الإضمامة الواسعة من الأفكار والأمكنة في بوتقة كلام المسرود الذي لايعرف زماناً ولا مكاناً محدداً. فالعالم كله ميدانه، والشخصيات ليست إلا أفكاراً تعبر عن مسرود كوني، والأمكنة ليست الا اختلاطات السماء بالأرض، المجهول بالمعلوم، والفنية ليست إلا تقنية معاصرة تتشكل في الغياب لتكشف عن محتويات مضمرة في الأحداث المعلنة. كل هذه التركيبة تجعلنا نبتدئ بتحليل الرواية ابتداءً من عتبة عنوان الرواية ، كعتبة أولى، ونافذة للدخول إلى عوالم الرواية الغائرة في رمال بادية السماوة وسجونها.

تودوروف شعرية النثر ص 11. -–

تودوروف شعرية النثر ص 26.-