على فكرة: (الكبريت الأحمر)

Monday 1st of March 2021 09:41:43 PM ,
العدد : 4886
الصفحة : الأعمدة , د. أحمد الزبيدي

 د. أحمد الزبيدي

ليس بأيدينا إلّا أن نصدِّقَ أبا عَمْرِو بْن العلاء الّذي أخبرنا بشحّة النّقاد في عصره؛ فهُم : (( أندر من الكبريت الأحمر ))، وليس بنا حاجة إلى إحصاء نِزار قبّاني : (( شعراء العراق أكثر من نخيله)) لمعرفة كَثرة شعرائنا؛ ولكن مَنْ يخبرنا عن حجم ( الشعر الماكث ) في جوهر الشعريّة العراقيّة؟

ما عدد الشعراء دائمِي الخضرة، الّذين لمْ تغيِّرْهمُ المواسمُ السِّياسيّة، والِاجتماعيّة، والدّينية عن تغيير مواقفهم المبدئيّة تُجاه الحياة والآخر ؟ أعني: (الشاعر المثقّف ) الّذي دخل مِنطقة الشِّعْر بمناعة ثقافيّة عميقة، وبرؤًى واعية، وتصوّرات فكريّة، ورغبة في التجديد والِابْتعاد عن التقليد .

قد لا نؤمن بنسقيّة الأجيال الشعريّة العشريّة؛ ولكن يؤمن كثيرٌ بأنّ المرحلة الستينيّة مرحلة تحوّل ثقافيّ _ عالمياً وعربياً _ والعراق إحدى الدول الّتي أصابها اللّقاح الستينيّ: فترجمات الوجوديّة، وظهور التّيَّارات الفكريّة اللّيبراليّة، والاشتراكيّة، واليمينيّة، والصراع والِاحتدام؛ وتَشَكُّل طبقات ثقافيّة في الجامعات العراقيّة.. كلّها عواملُ أسهمت في صناعة جيل واعٍ يسعى إلى خلق هُويَّة ثقافيّة مغايرة ، في مستويات عِدّة : في الشعر، والرواية، والمسرح، والتشكيل، والنحت .. ولا شكّ في أنَّ تَشَكُّلَ الطبقة الوسطى؛ له الأثر في تبلور خطاب مدنيّ أنتج مغايرة ثقافيّة؛ ومنها الشعر الحرّ؛ كما يتصوّر سعيد عبد الهادي في دراسته عن تلك المرحلة .

حين نتابع الحركة الثقافيّة العراقيّة في ما بعد الرّوّاد للشعر الحرّ نجد تشَكُّلَ ظاهرة الشاعر المثقّف الّذي لا يكتفي بمُنجَزه الشِّعريِّ؛ بلْ يتعدّى العتبة الجماليّة إلى عتبات نقديّة، وثقافيّة، وفكريّة؛ ونراه يدافع عن تصوّراته الشعريّة بمقالات نقديّة، ويؤازر حركة جيله، وأحياناً يوخز الآخر المختلف عنه إيديولوجياً بوخزات تقلِّل من شأنه الجماليّ.. فهي مرحلة من أهمّ ما انمازت به تنوّع مرجعيّات الشعراء: الإيديولوجيّة والثقافيّة، ولم يكنِ الِاخْتلاف مصدًّا لتشكّلات شعريّة في ضمن تصوّراتهم المتقاربة عن الحداثة ومفهومها، وتطبيقها؛ ومن هنا كان البيان الستينيّ تشكيلةً متنوّعةً ومختلفة إيديولوجيّاً، ومتقاربة ثقافيّاً، وإن كانت هذه هي البداية ( الجماعيّة )؛ فإنّ النتاج الفرديّ لشعراء البيان يتنافس من أجل الصدارة؛ سواء كان التنافس مُضْمَراً في ذواتهم أم مؤوّلًا من نتاجهم؛ وكلٌّ منهم لم يغادر الشعر، ولم يغادره، ولم يتخلَّ عن نتاجه الثقافيّ، ومتابعة الحركة الشعريّة؛ أفلا ينطبق هذا التوصيف على أصحاب البيان السبعينيّ؟ ؛ إذ إنّ أبرزهم انشغل بالمثيولوجيا والأديان، وقليلاً ما نسمع منه، أو عنه رأياً في الشعر، وآخر لا ذكر له خارج التوقيع الإداريّ على البيان، وثالث لم يغادر محلّيّته، ومحلّته؛ وعلينا أن نعترف بأنّ مرحلتهم لم تكن تسمح بـ ( التنوّع الإيديولوجيّ والثقافيّ )؛ ومن هذا المنطلق نجد أنّ قِمَّة المراحل الّتي تشكّلت فيها ظاهرة الشاعر المثقّف ذي النزوع الجماعيّ؛ هي المرحلة الستينيّة الّتي أُخِذَت بجريرة من جاء بعدهم، وحاول أنْ يصِلَ إلى مقامهم، ويحذوَ حذوهم؛ فعمَّ الحكم حتّى شمل التشابه العشريّ ! ..

أعلن الستينيّون عن انميازهمُ الشعريِّ؛ إذ وجدوا أنّ الرّوّاد لمّا استطاعوا أن ينقّحوا القصيدة من رواسب الرومانسيّة والتقليديّة.. هكذا سوّغوا جيلهم .. هذه تصوّراتهم. إنّهم اختلفوا نصرةً للحداثة الّتي تسعى إلى ألّا تنتصرَ ولا تكفَّ. أ حقّاً صنعوا تحوّلاً شعريّاً؟ أكاد أجزم بأنّنا لا نتّفق ولا سيّما حين وضعنا نصب العين كراهاتِنا الإيديولوجيّة؛ لتكون مِعولًا للتحطيم النقديّ .. ولكن لعلّ من أكثر ما نتّفق عليه حين نزور شعراء تلك المرحلة نجد العمق الثقافيّ: فأبرزههم عارفٌ بلغة أجنبيّة أخرى من اللّغات الأمّ للحداثة، ومتابع للحركة الشعريّة على المستوى العربيّ، والعالميّ؛ ويؤازر أسلوبه الشعريّ بأطروحات فكريّة، وفلسفيّة، وثقافيّة حتّى خَبَروا الحداثة: ثقافيًّا قبل أن ينجزوها جماليًّا. فهل أنتجت التّناصّات الجيليّة اللّاحقة منجزاً ثقافيّاً كما أنتجه الستينيّون ؟ وأكاد أجزم أنّ أبرز شاعر مثقف عراقيّ تحدّث عن ( الحداثة ) مصطلحًا، ومفهومًا، ومواكبةً، ودرايةً؛ هو الشاعر سامي مهدي؛ ودليلي على ذلك هو: سعيد علْوش صاحب آخر معجم في المصطلحات النقديّة الحديثة الّذي صدر منذ زمن قريب؛ فحين يذكر مصطلح الحداثة؛ فإنّه يعتمد على ( سامي مهدي ) في كتابه ( أفق الحداثة )؛ ليكون أحد مصادره المعرفيّة في الدلالات الاصطلاحيّة .. فما أكثر الشعراء! وما أقلَّ الكبريت الثقافيّ .