قناديل: صندقجة الثقافة

Saturday 6th of March 2021 09:14:21 PM ,
العدد : 4890 (نسخة الكترونية)
الصفحة : الأعمدة , لطفية الدليمي

 لطفية الدليمي

لطالما تساءلت : ماهي الأعمدة الأساسية التي تقوم عليها الثقافة العراقية ؟ تعاظم هذا التساؤل لدي في السنوات الأخيرة التي واظبتُ فيها على نشر أعمدة صحفية ومقالات وحوارات مترجمة ومراجعات كتب عالمية حديثة بصورة منتظمة، وأودُّ اليوم البوح بألمي كلّما شهدتُ مستوى القراءات المتدني في الموضوعات المستجدة ذات الأهمية الستراتيجية المؤثرة في تشكيل عالمنا الراهن.

لايعود ألمي هذا إلى انتكاسة حلمي بتشكّل ذائقة عامة تتقبل هذه الموضوعات(تبقى انتكاسة عابرة في كلّ الأحوال )؛ لكنّ ألمي العميق متأتٍ من حقيقة أنّ إنكار وتجاهل هذه الحقول المعرفية التي يهتم بها عالمنا المعاصر ،سيقودُنا إلى مزيد من التهميش الثقافي بعد أن لبثنا قانعين في قاع التهميش العلمي والتقني. وكلّ تهميش يطالُنا نحن صُنّاعُه، ولن ينفع أي تسويغ له مثلما يفعل الساسة الخائبون .

أعود إلى تساؤلي: تبدو لي الثقافة السائدة أقرب إلى " صندقجة " عتيقة تحوي عناوين متناثرة : ماركس وفرويد ودوستويفسكي وشكسبير وتولستوي، وصرعات ثقافية سادت ستينيات القرن الماضي "بنيوية في رأس القائمة مع وجودية وتفكيكية ..إلخ" ، تواريخ شخوص ووقائع وأفكار متفرقة لاترقى إلى تشكيل معرفة نَسَقية متماسكة .

أمّا ماركس وفرويد ودوستويفسكي وتولستوي فيبدون في منظور البعض أقرب إلى شخصيات ذات قداسة تبشر بتغيير العالم وفق مقاسات يوتوبية يتم تمجيدها بطريقة منغلقة؛ مع ملاحظة أن معظم من يستشهد بماركس لم يكن قد قرأه قراءة معمقة، في حين أصبحت كبريات الجامعات الغربية (جامعات النخبة الاميركية على سبيل المثال) تنشر كتباً لإعادة تقييم الماركسية والتقاط الثراء الحقيقي الكامن فيها بعد إزالة الترهل الايديولوجي عنها، وهو في عمومه ترهلٌ صنعه اشتراكيون تقليديون جعلوا من الماركسية إعلان حرب مستديم على كل ماعداها ؛فأضاعوا مكامن الثراء المضيء فيها.

الحال ذاته يصحُّ مع فرويد الذي لازال لدى البعض عالماً موصداً على بضعة مفاهيم بشّر بها ؛ بينما أصبحت الاضطرابات النفسية اليوم تُدرَسُ على المستوى الجزيئي الدقيق والخلل الحاصل في النواقل العصبية .

هل يعني هذا موت الكلاسيكيات المعروفة وعدم التبشير بها؟ أبداً . لازالت كبريات الكلاسيكيات في الأدب والفلسفة والعلم تلقى مقروئية واسعة وتُعدُّ أعمدة أساسية في الثقافة العالمية . الفرق يكمنُ في " أنسنة " الشخصيات الفكرية الكبيرة في تأريخ العالم وخلع القداسة عنها، واتخّاذ أفكارها منطلقاتٍ للمستقبل بدلاً من الاكتفاء بتدويرها وتكرارها في عالمٍ مقفل النهايات، فيبدو المرء كمن يستأنسُ بسماع صدى صوته في الفراغ.

أما الصرعات الثقافية التي سادت ستينيات القرن العشرين فسأكتفي بالقول أن قلاعها تهاوت في مواطنها الأصلية وصارت أقرب إلى حفريات ثقافية غير فاعلة، فقد باتت معايير الثقافة المتجددة في وقتنا الحاضر تقوم على أقيسة إجرائية مختلفة تقودها الكشوفات العلمية والفتوحات التقنية التي تتسارعُ بطريقة لاسبيل لملاحقتها .

يحقّ لنا، بل علينا أن نتساءل : لماذا آل حالُ الثقافة العراقية إلى هذا المآل الراكد ؟ يبدو لي أن السبب الرئيس يكمن في كون العلم لم يصبح بعدُ عنصراً فاعلاً في تشكيل ثقافتنا، وكلّ انغماس في ممارسة ثقافية غير منتجة ولامتجددة ، إنما يُخفي وراءه نقصاً في إعدادات التعامل مع فضاء الثقافة العالمية المنفتحة على حدود لانهائية.

لابأس أن تبقى "ثياب العرس" وذكرياتنا الجميلة عن الأسماء العظيمة في " الصندقجة " ؛ أما أن تكون " الصندقجة " خزّاناً أبدياً وحيداً يقدم لنا وجه ثقافتنا الحالية مسوّراً بمخزونات عتيقة تشكّلت أيام البدايات، فتلك خطيئة بحق ثقافتنا، وسيثبت خطلها في زمن ليس ببعيد .