باليت المدى: المتعة، ثقافة أيضاً

Sunday 7th of March 2021 09:59:26 PM ,
العدد : 4891 (نسخة الكترونية)
الصفحة : الأعمدة , ستار كاووش

 ستار كاووش

ربما يسعفني الآن المثل القائل (من عاشر قوماً أربعين يوماً، صار منهم) لأتخذه مبرراً، وأنا أستعيد فصل الصيف كما يفعل الهولنديون الذين أعيش بينهم منذ أكثر من عشرين سنة. أنتظر الصيف مثلهم،، لأتمتع بالدفء والضوء والنهار الذي يمتد ساعات طويلة.

ربما سينبري لي أحدهم هنا متسائلاً ( لكننا مازلنا في أول الربيع يارجل)، هذا صحيح، لكني وددت أن أكمل ما كتبته حول فصول هولندا التي تنعكس على ثقافتها، لتكتمل الصورة التي يتركها المناخ في هذا البلد، وكيف يؤثر في طبيعة الحياة بشكل عام. لقد عايشت الناس هنا وشاركتهم التفاصيل وهم يستقبلون الصيف بطريقة لا مثيل لها، فهو يعني لهم المتعة خارج البيت، السفر، الحفلات التي لا تنتهي، كرنافالات من الجمال تعم البلاد شرقاً وغرباً. هكذا بملابس قليلة وقلب مفتوح يستقبلون هذا الزائر الدافيء، فقد حان وقت الأسترخاء والمتعة. وبينما هم ينطلقون تلقائياً للوصول الى لذة تتغلغل في الروح والقلب، يلفح الدفء وجوههم ويمنحها سمرة محببة تميل الى اللون البرونزي، شبيهة بتلك التي تaكسو وجوه البحارة الذين يجوبون بحر الشمال.

أغلب ما يفكر به الهولنديون في هذا الفصل هو تجمعهم في مخيمات تملأ البلاد طولاً وعرضاً، يضعون كل ما يحتاجونه في سياراهم التي رُبِطَتْ خلفها الكارافانات ويمضون لا يلوون على شيء، كما يفعل جاري اللطيف سيبراند وزوجته يانكا اللذان يعطوني في كل مرة مفتاح بيتهم لأهتم بإطعام القطة والعناية بالزهور، ثم يلوحان لي قبل انطلاقهما بسيارتهما التي يتهادى خلفها كارافان كبير. في الصيف يقضي قرابة أربعة ملايين هولندي جلَّ وقتهم في المخيمات التي تأخذ طرقاً وأشكالاً متنوعة بتنوع الأشخاص والميول والاهتمامات والحاجة، فهناك مخيمات للعراة، وأخرى واسعة تشبه القرى الصغيرة حيث تضم مسابح للأطفال وأماكن للهو، كذلك فيها حوانيت لشراء كل ما يحتاجه الناس. والمخيمات في الغالب نوعان، مثل الخيم الصغيرة التي تتسع لشخصين أو الكرافانات التي تشبه البيوت. في السابق كان الهولنديون ينصبون خيمهم في الغابات أو على السواحل أو بين مزارع الفلاحين بحرية وكيفما اتفق، لكن قبل مائة سنة تقريباً وضعت الحكومة ضوابط وشروط وتفاصيل لنصب المخيمات. لم يكتفِ الهولنديون بنصب مخيماتهم داخل البلاد، بل يذهب أكثر من نصفهم الى خارج هولندا وهم محملين بكل شيء حتى دراجاتهم الهوائية، لذا يستغرب الفرنسيون من كيفية حمل الهولنديون كل شيء معهم حتى الأكل الهولندي، وهم في الحقيقة يفعلون ذلك كي تكون لهم خياراتهم التي يريدونها ولا يحدد الآخرين طريقة ووقت ونوع طعامهم. ويعتبر الهولنديون أن مشاركة القهوة مع الآخرين كافية وكفيلة بالتعرف عليهم وخلق صداقات معهم، وهذا يختلف عن دول أوروبا الجنوبية مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا التي يحب سكانها تناول الطعام وشرب النبيذ للتعرف وتكوين الصداقات.

وبما أن هولندا بلد بحري، فسمك الهارينغ يعتبر حكاية الصيف التي تتجدد، حيث يُعَدُّ هذا السمك صغير الحجم أشهر أكلة هولندية على الاطلاق، ويتناوله الناس عادة دون طبخ، يملح ويضاف اليه قطع ناعمة من البصل، ويلتهم بالطريقة الشهيرة التي تتطلب الإمساك بالسمكة من طرفها، ثم تُرفع لتتدلى من الأعلى، وتقضم بطريقة فيها الكثير من الطرافة.

وفي شمالي هولندا توجد مجموعة من الجزر الصغيرة التي تبعد عن اليابسة حوالي عشرة كيلومترات (هذه المساحة البحرية تابعة لليونسكو) وهناك يظهر المد والجزر، والناس ينتظرون ذلك وكأنهم بإنتظار العيد، كي يمارسوا رياضة محببة وشهيرة أثناء إنخفاض الماء، حيث تقل المياه التي تفصل الجزر الصغيرة عن شمالي البلد، فيقطع الناس هذه المسافة مشياً. وهذا الأمر يحتاج الى ملابس وأحذية خاصة حيث لا تنفع الجزمات والأحذية التقليدية. كذلك يتطلب عبور المنطقة دليلاً متخصصاً يقود الجماعة التي تقرر الذهاب مشياً نحو الجزر. وخلال الطريق يخبر الدليل مجموعته بالكثير من المعلومات والتفاصيل المدهشة، بسبب خبرته ونوع عمله، فهو يعرف تقريباً كل محارة تصادفهم ويفهم التفاصيل التي يخبئها البحر، يعرف أنواع الطيور هناك وأوقات المطر، كذلك المخاطر المتوقعة... والحلول أيضاً. لكن هذه الرحلة تحتاج الى لياقة عالية واستعداد بدني ونفسي، لصعوبة المشي في هذه المنطقة التي كان ماء البحر يغطيها قبل دقائق أو ساعات.

هذا بالنسبة للبحر، أما سماء هولندا فتمتلئ وقت الصيف بمناطيد الهواء العملاقة، فما تكاد ترفع رأسك حتى تشاهد مجموعة منها بألوانها الجميلة وأشكالها الطريفة. أما غابات هولندا فتمتلئ بمسارح الهواء الطلق التي تقام في الأماكن المفتوحة بين الأشجار، حيث يوجد منها عشرات المسارح التي تقدم مسرحيات شهيرة لكتّاب من كل العالم. وهناك الأرصفة التي تكون في الصيف مكاناً مثالياً لبيع الكتب الجديدة والمستعملة التي يفرشها الباعة في كل المدن والقرى الهولندية، وتصاحب ذلك أغلب الأحيان أسواق بيع اللوحات الصغيرة التي يعرضها الفنانون في خيم مجهزة لهذا الغرض، حيث يعلق الفنانون لوحاتهم، ويتجمعون مع بعض قريباً منها لتناول السندويتشات التي تصاحبها أقداح النبيذ. وسط كل هذه الفعاليات والتفاصيل هناك كارنافالات الصيف التي لا تتوقف الحركة فيها وهي تملأ الكثير من المدن والقرى، وأشهرها يقام في مدينة روتردام، حيث تمتلئ الشوارع بالرقص والموسيقى بشكل احتفالي مدهش. وإن لم يكن لديك مزاح لكل هذه الفعاليات، فمقاهي الأرصفة تفتح لك ذراعيها لتسترخي هناك مع الجعة الهولندية الشهيرة حيث النادلات الجميلات يتحركن مثل الفراشات لتلبية طلباتك... تسبق خطواتهن ابتسامات ودودة تمنح شرابك طعماً آخر .