الكاتب والفيلسوف الإسباني ( بول.ب.بريسيادو):

Saturday 10th of April 2021 09:55:17 PM ,
العدد : 4919
الصفحة : ترجمة ,

 علينا الانتقال من عزلة قسرية إلى عزلة متعمدة ..

 صحتنا لن تأتي من الاحتجاز ، بل من فهم جديد للمجتمع

ترجمة : عدوية الهلالي

لمواجهة فايروس كوفيد -19 بأساليب جديدة ، نشر الكاتب والفيلسوف الأسباني ( بول .ب. بريسيادو) مقالاً في صحيفة لاتريبون الفرنسية ليتحدث عن كيفية الاستفادة من تجربة الوباء وتعلم الكثير منها ، قال فيه :

لو كان ميشيل فوكو قد نجا من ويلات الإيدز وقاومه حتى اختراع العلاج الثلاثي ، لكان عمره اليوم 93 عاماً.. فهل كان سيوافق عن طيب خاطر على حبس نفسه في شقته في شارع فوجيرارد؟ لقد ترك لنا الفيلسوف الأول في التاريخ الذي مات من المضاعفات الناتجة عن فايروس نقص المناعة المكتسب بعضاً من أكثر المفاهيم فعالية للتفكير في الإدارة السياسية للوباء ، والتي تصبح ، وسط حالة من الذعر والتضليل ، مفيدة لنا ..

اعتقد أن أهم شيء تعلمناه من فوكو هو أن الجسد الحي (وبالتالي الفاني) هو الهدف المركزي لجميع السياسات، لكن الجسد بالنسبة لفوكو ليس كائناً بيولوجياً معيناً تعمل عليه السلطة بعد ذلك، ذلك إن مهمة العمل السياسي ذاتها هي تصنيع الجسم ، وتشغيله ، وتحديد أنماط تكاثره ، والرسم المسبق لأنماط الخطاب التي يتم من خلالها تخيّل ذلك الجسم حتى يتمكن من قول "أنا"، ويمكن فهم كل أعمال فوكو على أنها تحليل تاريخي للتقنيات المختلفة التي تدير السلطة من خلالها حياة وموت السكان..

فلنعد الآن إلى حالتنا الحالية، فقبل وقت طويل من ظهور كوفيد -19، كنا قد بدأنا بالفعل عملية طفرة كوكبية، كنا نمر بالفعل ، قبل الفايروس ، بتغيير اجتماعي وسياسي عميق فنحن ننتقل اليوم من مجتمع مكتوب إلى مجتمع إلكتروني ، ومن مجتمع عضوي إلى مجتمع رقمي ، ومن اقتصاد صناعي إلى اقتصاد غير مادي .. وقد أضفى فايروس كوفيد -19 شرعية ووسع نطاق ممارسات الدولة من التيقظ البيولوجي والتحكم الرقمي ، وتطبيعها وجعلها "ضرورية" للحفاظ على فكرة معينة عن الحصانة

وكمجتمع أوروبي ، قررنا أن نبني أنفسنا بشكل جماعي كمجتمع مناعي تماماً ، مغلق على الشرق والجنوب ، في حين أن الشرق والجنوب ، من وجهة نظر موارد الطاقة وإنتاج السلع الاستهلاكية ، هما مستودعاتنا . لقد أغلقنا الحدود في اليونان ، وبنينا أكبر مراكز احتجاز في الهواء الطلق في التاريخ على الجزر المتاخمة لتركيا والبحر الأبيض المتوسط ، وتخيلنا أن هذا سيعطينا شكلاً من أشكال الحصانة، وبدأ تدمير أوروبا بشكل متناقض مع هذا البناء لمجتمع أوروبي محصن ، مفتوح من الداخل ومنغلق تماماً على الأجانب والمهاجرين.

إن الأوبئة ، وبسبب دعوتها إلى حالة الاستثناء والخضوع للإجراءات المتطرفة ، هي أيضاً مختبرات كبيرة للابتكار الاجتماعي ، وهي مناسبة لإعادة تشكيل تقنيات الجسم وتقنيات القوة على نطاق واسع.. فإذا كان الجذام قد تمت مواجهته من خلال إجراءات صارمة استبعدت المجذوم ، وحكمت عليه إنْ لم يكن بالموت على الأقل بالحياة خارج المجتمع ، فإن رد الفعل على وباء الطاعون يخترع إدارة تأديبية وأشكال شمولية حصرية: كالتقسيم الصارم للمدينة ، وحبس كل جثة في كل بيت،لكن صحتنا اليوم لن تأتي من فرض الحدود أو الانفصال ، ولكن من توازن جديد مع الكائنات الحية الأخرى على هذا الكوكب..

وتُظهر الستراتيجيات المختلفة التي اتخذتها البلدان المختلفة في مواجهة انتشار كوفيد -19نوعين مختلفين تماماً من تقنيات السياسة الحيوية، الأول ، الذي يعمل بشكل رئيسي في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا ، ويطبق إجراءات تأديبية صارمة لا تختلف ، من نواح كثيرة ، عن تلك المستخدمة ضد الطاعون، إنه يتعلق بالحبس المنزلي لجميع السكان.. ويعمل هنا منطق الحدود المعمارية وعلاج حالات العدوى داخل المستشفيات الكلاسيكية. ولم تظهر هذه التقنية حتى الآن دليلاً على الفعالية الكاملة.

أما الستراتيجية الثانية ، فهي التي نفذتها كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونغ كونغ واليابان ، وتتضمن الانتقال من تقنيات المراقبة والتأديب المعمارية الحديثة إلى تقنيات المراقبة البيولوجية الدوائية: وهنا ينصب التركيز على الاكتشاف الفردي للفايروسات من خلال التكاثر ومن الاختبارات والمراقبة الرقمية المستمرة والصارمة للمرضى من خلال أجهزة الكمبيوتر المحمولة الخاصة بهم ، اذ أصبحت الهواتف المحمولة وبطاقات الائتمان هنا أدوات مراقبة تسمح بتتبع حركات الجسم الفردية. فنحن لا نحتاج إلى الأساور البيومترية لأن الهاتف أصبح أفضل سوار ، ولا أحد يفصله عنه حتى أثناء النوم. ويقوم تطبيق GPS بإبلاغ الشرطة بتحركات أي جسم مشبوه ، كما تتم مراقبة درجة حرارة وحركة الجسم الفردي من خلال تقنيات الهاتف المحمول ويتم ملاحظتها في الوقت الفعلي بالعين الرقمية لدولة استبدادية إلكترونية يكون المجتمع فيها مجتمعاً من مستخدمي الإنترنت والسيادة فيها للشفافية والإدارة الرقمية.

وترسم الإدارة السياسية لـكوفيد -19 ،كشكل من أشكال إدارة الحياة والموت، ملامح ذاتية جديدة. فما كان سيُبتكر بعد الأزمة هو مدينة فاضلة جديدة لمجتمع المناعة وطريقة جديدة للسيطرة على الجسد. إن موضوع النظام الأبوي التكنولوجي النيوليبرالي الذي يصنعه فايروس كوفيد – 19 لايمكن لمسه، وليس له يد، إنه لا يتبادل السلع المادية ، ولا يمس العملات المعدنية ، بل يدفع ببطاقة الائتمان، ليس له شفاه ولا لسان ، لا يتكلم مباشرة ، بل يترك رسالة صوتية. إنه لا يجتمع لأنه فردي. ليس له وجه بل لديه قناع.. إنه ليس وكيلاً مادياً ، ولكنه مستهلك رقمي ، منتج عن بُعد ، إنه رمز ، وحساب مصرفي ، وعنوان يمكن لأمازون إرسال طلباته إليه.كما أصبح المنزل الشخصي الآن مركزاً لاقتصاد الاستهلاك والإنتاج عن بُعد.

وعلى عكس ما قد يتخيله المرء ، فإن صحتنا لن تأتي من فرض الحدود أو الاحتجاز ، ولكن من فهم جديد للمجتمع ، ومن توازن جديد مع الكائنات الحية الأخرى على هذا الكوكب.. إذ يدعونا حدث كوفيد-19وعواقبه إلى تحرير أنفسنا بشكل نهائي من العنف الذي حددنا به حصانتنا الاجتماعية. ولا يمكن أن يكون الشفاء والتعافي مجرد لفتة مناعية سلبية للانسحاب من المجتمع ، وإغلاق المجتمع. لا يمكن أن ينشأ الشفاء والرعاية إلا من عملية التحول السياسي. إن شفاء أنفسنا كمجتمع سيعني اختراع مجتمع جديد يتجاوز الهوية وسياسة الحدود التي صنعنا منها السيادة حتى الآن ، كما إن البقاء على قيد الحياة ، والبقاء على قيد الحياة ككوكب ، في مواجهة الفايروس ، ولكن أيضاً في مواجهة ما قد يحدث ، يعني وضع أشكال هيكلية للتعاون الكوكبي، فعندما يتحور الفايروس ،وإذا أردنا مقاومة الخضوع ، يجب علينا اذن أن نتحول أيضاً ..فمن الضروري الانتقال من عزلة قسرية إلى عزلة متعمدة من خلال تغيير علاقة أجسامنا بآلات المراقبة الحيوية والتحكم الحيوي فهذه ليست مجرد أجهزة اتصال وعلينا أن نتعلم بشكل جماعي كيف نتحكم فيها ونستغل فترة الحبس لفائدتنا ..