قراءة الروايات : هل تجعلُنا أناساً أفضل ؟

Tuesday 13th of April 2021 10:11:56 PM ,
العدد : 4922
الصفحة : عام ,

كتابة : كلوديا هاموند

ترجمة وتقديم لطفية الدليمي

يُباعُ كلّ يومٍ أكثر من 1.8 مليوناً من الكتب في الولايات المتّحدة ، ويُباعُ نصفُ مليونٍ منها في المملكة المتحدة ؛

وعلى الرغم من كلّ الإلهاءات سهلة المنال والمتاحة لنا اليوم فليس ثمة شكٌّ في أنّ كثرةً من البشر لم تزل تهوى القراءة ، يمكنُ للكتب - بالطبع - أن تعلّمنا الكثير عن العالم ، مثلما يمكن لها أن تحسّن قاموسنا اللغوي وتنوّع مفرداتنا ومهاراتنا الكتابية ؛ لكن هل تجعلنا قراءة الروايات – على وجه التحديد – أناساً أفضل ؟ .

الإدعاءات حول القوة المؤثرة للرواية في حياتنا كثيرةٌ وعظيمة الآثار ؛ فقد قُرِنت الرواية بكلّ أمرٍ طيّب إبتداءً من زيادة ملحوظة في العمل التطوّعي والمساهمة في التبرع للأعمال الخيرية وحتى تشجيع الميل نحو التصويت ( في الانتخابات ) ؛ بل وحتى نُسِبَ إلى الرواية التسبّبُ في الخفض التدريجي لمناسيب العنف على مدى القرون .

الشخصيات الروائية قادرة على جعلنا نَعْلَقُ مأسورين في الحكايات ، وقد سبق لأرسطو أن قال إننا عندما نشاهدُ مأساة أمامنا فإنّ اثنين من المشاعر يطغيان علينا ويأسران عقولنا : الشعور بالشفقة والتعاطف ( تجاه الشخصية ) ، والشُعور بالخوف ( تجاه أنفسنا ) . نحنُ حينئذ - ومن غيرما ضرورة محتّمة بملاحظتنا الأمر والشعور به - نحرّكُ مخيالنا البشري لنتحسّس ماالذي سيبدو عليه الأمر لو كنّا مكان تلك الشخصيات ( الروائية ) ، ومن ثمّ نقارنُ ردّات فعل تلك الشخصيات تجاه وقائع محدّدة مع ماسلكناه نحنُ في الماضي تجاه وقائع من النوع ذاته، كما نتخيّلُ أيضاً ماالذي قد نفعله إزاء هذه الوقائع في المستقبل .

إنّ هذه الفاعلية البشرية في تبنّي منظورات جديدة هي شيء أشبه ببرنامج تدريبي في فهم الآخرين . كيث أوتلي Keith Oatley ، المتخصص الكندي في علم النفس الإدراكي ، يدعو الرواية « جهاز محاكاة الطيران الخاص بالعقل Mind’s Flight Simulator “ ؛ إذ مثلما أنّ الطيارين يستطيعون في جهاز المحاكاة هذا ممارسة الطيران من غير مغادرة الأرض فإنّ قارئي الرواية يستطيعون تحسين مهاراتهم الإجتماعية في كلّ مرّة يفتحون فيها كتاباً روائياً ليقرأوه . وَجَدَ أوتلي عبر جهوده البحثية المعمّقة أننا متى ماشرعنا في التماهي مع الشخصيات الروائية فإننا نبدأ بالتفكّر في أهدافها ورغباتها بدلاً من تلك الأهداف والرغبات الخاصة بنا ، عندما تكون تلك الشخصيات في خطرٍ ما تتسارعُ دقّات قلوبنا ترقباً لما سيحدث لها ؛ بل قد يصل الأمرُ بنا أن نلهث طلباً للهواء ! يحصلُ هذا ونحنُ نعرفُ مسبقاً أن لاشيء خطراً سيؤذينا ؛ لكننا نمضي في القراءة رغم كلّ شيء ولن ندفع أنفسنا للغطس في مستنقع رعبٍ قد يصدّنا عن القراءة أو يدفعُنا لإطلاق سيقاننا للريح والهرب بعيداً عبر النوافد .

ونحنُ نعرضُ هذه الحقائق نعلمُ تماماً أنّ بعضاً من الآليات العصبية التي يستخدمها الدماغ وهو يضفي معنىً على السرديات الروائية إنما هي الآليات ذاتها التي يستخدمها البشر عند التعامل مع حالاتٍ مشابهة من الحياة الواقعية : عندما نقرأ في روايةٍ ما مفردة « رَكَلَ « ، على سبيل المثال ، فيتمُّ حينئذ تنشيطُ مناطق في الدماغ مماثلة للمناطق التي تتنشّطُ عندما يحصلُ فعلُ الركل الحقيقي ، وبطريقة مماثلة لو قرأنا في رواية ما أنّ شخصية سحبت حبلاً خفيفاً فإنّ الفعالية الدماغية تتعاظم في منطقة في الدماغ تختصُّ بفعالية الإمساك بالأشياء المادية .

عندما نتابعُ حبكة روائية ما فنحنُ في مسيس الحاجة لمعرفة مَنْ يعلمُ المآلات التالية في الرواية ، وكيف تشعر الشخصيات إزاء تلك المآلات ، وماالذي تعتقده كلّ شخصية بشأن ماقد تفكّر به الشخصيات الأخرى في الرواية . تتطلّبُ هذه الفعالية حزمة مهاراتٍ تُدعى ( نظرية العقل Theory of Mind ) ، وعندما يقرأ الناسُ الروايات ويتأملون بأفكار شخصياتها فإنّ مناطق في الدماغ مرتبطة بفعاليات نظرية العقل يتمُّ تنشيطُها .

من الطبيعي والحالة هذه من الممارسة القرائية للروايات ( والتي تدفع المرء لإبداء مظاهر التعاطف مع الآخرين ) أن يفكّر كثيرون منّا بأنّ المُكثِرين من قراءة الروايات يمتلكون مهارات إجتماعية أفضل من سواهم من الناس الذين يكتفون بقراءة الأعمال غير الروائية أو أنهم لايستطيبون القراءة أصلاً .

تكمنُ المعضلة الخاصة بإجراء هذا النوع من العمل البحثي ( الخاص بتأثير الرواية في سلوك قارئيها ) في أنّ العديد منّا لديهم ميلٌ طاغٍ للمبالغة في أعداد الكتب ( أي الروايات ) التي سبق لهم قراءتها ، ولكي يتعامل أوتلي وزملاؤه الباحثون مع هذه الإشكالية فقد أعطوا مجموعة من الطلبة المساهمين في البحث قائمة من الكُتّاب الروائيين وغير الروائيين كذلك ، وطلبوا إليهم التأشير - فقط - على الكُتّاب الذين سمعوا بهم مع تحذيرهم المسبق بأنّ بعضاً من الأسماء المزيّفة لكُتّاب قد جرى ضمّها إلى القائمة لأجل التثبّت من أنّ هؤلاء الطلبة لايعمدون إلى الكذب . أثبتت هذه المقاربة البحثية أنّ عدد الكُتّاب الذين سمع بهم الناس من قبلُ هو عدد مقاربٌ لعدد الأعمال التي سبق لهم قراءتها ( أي بمعنى أنّ الكاتب الذي نعرفه هو في الغالب من نقرأ أحد أعماله ، المترجمة ) .

لاحقاً لهذا ، قدّم فريق أوتلي لمجموعة الطلبة إختبار « العقلُ في العيون « حيثُ يُقدّمُ للمرء الخاضع للإختبار سلسلة من الصور لأزواج من العيون ، ويُطلَبُ إليه عبر معاينة العيون والجلد المحيط بها فحسب معرفةُ نمط الشعور الذي يشعرُ به صاحبُ العيون . يُعطى للمرء الموضوع تحت الاختبار قائمة قصيرة من خياراتٍ مثل : خجول ، مذنب ، مسكونٌ بأحلام يقظة ، قَلِقٌ ،،، . هذه التعبيرات مميزة ، وقد تبدو للوهلة الأولى محايدة لاتعكسُ مشاعر محدّدة ؛ لذا فهي أصعبُ على التوصيف ممّا قد تبدو عليه . أبانت النتائج أنّ الطلبة الخاضعين للإختبار ممّن سبق لهم قراءة أعمال روائية أكثر من غير الروائية حقّقوا نتائج أفضل في هذا الإختبار ، كما حقّقوا نتائج أفضل أيضاً في مقياس يؤشّرُ درجة الحساسية الشخصية تجاه الآخرين .

من جانب آخر ، أظهر العمل البحثي لعالمة النفس ديانا تامر Diana Tamir الذي أجرته في مختبر العلوم العصبية الإجتماعية في جامعة برينستون أنّ الناس الذين يقرؤون - غالباً - الرواية يحوزون إدراكاً إجتماعياً أفضل من سواهم ؛ أي بكلمات أخرى : إنهم أكثر مهارةً في التفكير والعمل خارج نطاق تفكير وشعور بقية الناس ، وقد أظهرت الكشوفات الناجمة عن دراسات تامر والمقترنة بفحوص الأشعة المقطعية Scans للدماغ أنّ أدمغة الناس ، وهم منغمسون في قراءة الروايات ، تُبدي نشاطاً أعلى في مناطق الدماغ الخاصة بالفعالية التفاعلية مع حالاتٍ سلوكية محدّدة بالمقارنة مع نشاط أدمغة أناسٍ آخرين ( من غير قارئي الروايات ) .

يبدو أنّ الأشخاص الذين يقرؤون الروايات أكثر من سواهم هم أفضلُ - كمعدّل وسطي - في قراءة ( بمعنى معرفة ) مشاعر الآخرين ؛ لكن هل يجعلهم هذه الأمر ، بالضرورة ، أناساً أفضل ؟ لكي نختبر هذه الحقيقة تجريبياً إستخدم باحثون طريقة طوّرها أحد طلبة علم النفس وهي أن تُسقِطَ « بالمصادفة « حزمة من الأقلام على الأرض ومن ثم ترى من سيمدُّ لك يد العون ويساعدك في إعادة لمّ هذه الحزمة ، قبل بدء التجربة أعطي المساهمون فيها إستبياناً Questionnaire خاصاً بالميول المزاجية ضمّ أسئلة تقيسُ درجة التعاطف ، ثمّ قرأ كل واحد من المساهمين قصة قصيرة وأجاب عن سلسلة من الأسئلة التي سعت لمعرفة درجة تأثير القصة في تغيير نمط شعورهم وتفاعلهم مع ماقرأوه ، من قبيل : هل تكوّنت لديهم صورة عقلية نشطة ومؤثرة عن الشخصيات التي قرأوا عنها في القصة ؟ وهل يريدون تعلّم المزيد حول تلك الشخصيات بعدما أكملوا قراءة القصة ؟ ، ثمّ حصل فجأة أن قال القائمون على التجربة أنهم في حاجة للمغادرة وجَلْبِ شيء ما من غرفة أخرى ، وتقصّدوا إسقاط ستة أقلام في طريقهم خارجاً . نجحت التجربة في تأكيد ماتوقعه القائمون على التجربة : الأشخاص الخاضعون للتجربة ممّن أكّدوا أن قراءة القصّة أثّرت فيهم أكثر من سواهم وأبدوا تعاطفاً أكثر مع شخصياتها هم الذين تسابقوا لجمع الأقلام المتساقطة على الأرض .

قد تتساءلُ : أليست ثمة إحتماليةٌ ممكنةٌ في أنّ الناس الذين أبدوا تعاطفاً أكبر مع شخصيات القصة هم - أصلاً - مجبولون على رقّة الطبع واللطافة في السلوك مع الآخرين والمسارعة في مدّ يد العون لهم ؟ كان القيّمون على التجربة مدركين لهذه الإحتمالية ؛ لذا وضعوا في حسبانهم تأثير درجة التعاطف لدى الخاضعين للتجربة ، وكانت النتيجة التي إنتهوا إليها تفيدُ بأنّ الأشخاص الذين تأثّروا بالرواية أكثر من سواهم هم الذين أبدوا سلوكيات إيثارية مشهودة بأكثر ممّا فعل الآخرون ( حتى لو كان بين الآخرين أشخاصٌ ذوو رقة وكياسة وميل متأصّل فيهم لمساعدة الآخرين ، المترجمة ) .

التجارب ، بالتأكيد ، وجهٌ واحد في الصورة ، وقبل أن نعمّم النتائج على قطاعات أوسع من المجتمع لابدّ أن نكون حذرين ، ثمة دوماً إمكانية في الحياة الواقعية أن يكون الأشخاص الأكثر تعاطفاً مع الآخرين هم أنفسهم الأكثر ولعاً في معرفة كنه الحيوات الباطنية للبشر ، وهذه الرغبة في المعرفة هي التي تدفعهم في المقام الأوّل لقراءة الرواية ، هذا ليس بالأمر اليسير على الإخضاع للعمل البحثي واشتراطاته الصارمة ، الدراسة البحثية المثالية قد تتضمّنُ قياس مستويات التعاطف لدى أناسٍ مختلفين ، ومن ثمّ توزيعهم عشوائياً في صنفين : صنفٌ سيقرأ روايات عدّة عبر سنوات قادمة ، وصنفٌ آخر لن يقرأ أياً منها خلال نفس العدد من السنوات ، ومن ثمّ قياس مستويات تعاطفهم ثانية بغية معرفة هل أنّ قراءة الروايات صنعت إختلافاً ما .

على خلاف هذه الدراسات الطويلة غير حاسمة النتائج أجريت دراساتٌ قصيرة المدى . على سبيل المثال : صمّم باحثون هولنديون تجربة خيّروا فيها مجموعة من الطلبة بين قراءة مقالات صحفية محدّدة عن الشغب في اليونان أو يوم التحرير في هولندا ، أو قراءة الفصل الأوّل من رواية العمى Blindness للحائز على جائزة نوبل في الأدب خوزيه ساراماغو Jose Saramago . ثمة رجلٌ في هذه الرواية ينتظر في سيارته عند إشارات مرورية ، وفجأة يصبحُ شخصاً أعمى ، وحينها يأخذه الراكبون في سيارته إلى بيته ؛ في حين يعِدُ أحد المارة العابرين بقيادة سيارته نحو منزله ؛ لكنه يسرقها ! ، عندما قرأ الطلبة هذه الحكاية لم ترتفع مناسيب تعاطفهم مباشرة فحسب ؛ بل أنّ كثرة منهم ممّن أبدوا تعاطفاً مثيراً غير مسبوق تجاه الآخرين في حياتهم حقّقوا نتائج أعلى في إختبارات التعاطف عقب أسبوع من قراءة هذا الفصل بالمقارنة مع ماحقّقوه بعد الإنتهاء من قراءته .

قد تجادلُ بالطبع أنّ الرواية ليست وحيدة في خلق هذا التأثير ؛ فنحنُ قد نتعاطفُ مع أشخاصٍ نقرأ عنهم في حكايات الأخبار الصحفية أيضاً ، ونحنُ نفعل هذا غالباً ؛ لكنّ الرواية لها ثلاثة فوائد ( بالمقارنة مع الأخبار أو غيرها ) : تتيحُ لنا الروايات التوغّل في العوالم الداخلية ( الجوّانية inner ) للشخصيات بطريقة لانفعلها في العادة ونحنُ نقرأ الصحافة ، ثمّ أننا نكون مرحّبين عند قراءة الرواية بتعليق مسألة عدم التصديق بما نقرأ من غير كثير مساءلةٍ لموثوقية ماتقوله الشخصيات الروائية ، أخيراً ، تتيحُ لنا الرواياتُ فعل شيء يستعصي علينا فعله في حيواتنا الواقعية ، وهو إستعراضُ حياة الشخصية الروائية عبر سنواتٍ عدّة . تأسيساً على ماسبق فإنّ الجهود البحثية تُرينا أنّ قراءة الرواية تجعلُ الناس يسلكون بطريقة أفضل ، وبالتأكيد ثمة العديد من المؤسسات الأكاديمية التي تضعُ مفاعيل قراءة الروايات في حسبانها إلى حدّ باتت معه تُضمِّنُ مناهجها الدراسية مواد من الأدب ، على سبيل المثال ، تُبدي جوانا شابيرو Johanna Shapiro من قسم طب العائلة في جامعة كاليفورنيا ( إرفين ) ، قناعتها الراسخة بأنّ قراءة الرواية فعالية ينتج عنها أطباء أفضل ؛ ومن أجل وضع هذه القناعة موضع التطبيق فقد تأسّس برنامج لدراسة الإنسانيات للمساعدة في تدريب طلبة الطب .

يبدو أنّ الوقت قد حان لكي نغادر تلك الصورة المنمّطة عن قارئ الروايات الذي يبدو دوماً بهيئة « دودة كتب « خجول لاينفكُّ يدسُّ أنفه على الدوام بين صفحات كتابٍ ما لأنه يجدُ مشقة في التعامل مع أناسٍ حقيقيين . الحقُّ أنّ « ديدان الكتب « هؤلاء قد يكونون أفضل من سواهم في فهم الكائنات البشرية .

 

It sounds as though it’s time to lose the stereotype of the shy bookworm whose nose is always in a book because they find it difficult to deal with real people. In fact, these bookworms might be better than everyone else at understanding human beings.

عن : BBC Psychology

3 يونيو ( حزيران ) 2019

الرابط الالكتروني للمادة :

https://www.bbc.com/future/article/20190523-does-reading-fiction-make-us-better-people