قناديل: ما الذي يختبئ تحت جلد العراقي؟

Saturday 5th of June 2021 09:43:27 PM ,
العدد : 4958
الصفحة : الأعمدة , لطفية الدليمي

 لطفية الدليمي

كتبتُ في مقالة حديثة منشورة لي قبل أيام أنني أميلُ للرأي القائل أنّ معظم المباحث الانسانية إنما يمكن «إشتقاقها» من مبحث الانثروبولوجيا الثقافية ؛ لذا أجدني ميّالةً لقراءة موضوعات أو كتب في هذا المبحث.

من بين أحدث قراءاتي في هذا الشأن مقالة حديثة مطوّلة بعنوان «كيف أعاد بعضُ الإنثروبولوجيين الثقافيين إكتشاف مفهوم الإنسانية ؟ « نُشِرت في مطبوعة النيويوركر، وهي في أصلها مراجعة لكتاب حديث يتناول تأريخ مدرسة شيكاغو الانثروبولوجية ومؤسسها (فرانز بوا) وتلاميذه المعروفين (مارغريت ميد، رالف لينتون، روث بندكت،،،). المقالة رائعة، وقد منحتني متعة كبيرة حدّ أنني عقدتُ العزم على ترجمتها ونشرها في الأيام القليلة القادمة.

عندما يقرأ أحدنا في مثل هذه المباحث المعرفية التأسيسية فنحنُ لسنا أمام سرديات شخصية تعميمية بقدر مانحنُ أمام دراسات ميدانية تحوّلت معطياتها الإحصائية إلى معلومات مفيدة في دراسة أنماط الثقافة ولسنا في معرض القفز إلى آراء شخصية يجري رفعها إلى مرتبة السرديات التي تلاقي مقبولية عامة لقدرتها على ملامسة الذائقة الشعبية بسبب القدرة التأثيرية للسردية الحكائية الكامنة فيها والتي تستحيلُ أمثولات عامة.

معروفٌ عن الراحل الدكتور (علي الوردي) أنه اعتمد المقاربة الستراتيجية القائمة على مخاطبة الجمهور القارئ عبر أمثولات حكائية مؤثرة، ومن تلك الأمثولات الشائعة واحدة إشتهرت أكثر من سواها وأعني بها موضوعة (التناشز بين البداوة والحضارة) والتي صار بطلها المعلن (ملّا عليوي) الذي قد يكون شخصاً مدنياً ارتدى البدلة وربطة العنق ؛ لكنّه يظلُّ بدوياً متى ماحككنا جلده واستثرنا - بقصد أم من غير قصد - بعض عصبيته المغلّفة بقشرة مدنية رقيقة.

لا أسعى لمناكفة مقصودة أو إثارة صحفية ؛ لكن الأساس في كلّ أطروحة هو إخضاعها لمساءلة صارمة بصرف النظر عن مكانة أصحابها. يمكن مساءلة أطروحة الوردي بشأن (ملّا عليوي) الساكن دوماً تحت جلود العراقيين من ثلاثة جوانب : أما الأوّل فهو أنّ العراقيين أبدوا في خمسينات القرن الماضي شواهد عديدة تؤكّدُ مدنيتهم الراسخة، وأجزمُ القول أنّ بعض الصور لنساء ورجال تلك الحقبة تؤكّدُ لنا أننا نرى بشراً ربما كانوا أكثر أناقة وكياسة من كثير من الغربيين أنفسهم. البداوة خصيصة تَسِمُ بعض المناطق المحدّدة في العراق ؛ لكنّ عمل الدولة على إشاعة التعليم والحصول على مداخيل معيشية معقولة كان كفيلاً بكسر القيود البدوية شيئاً فشيئاً وإذابتها تحت سطوة المصلحة الشخصية ؛ فالمرء يُؤثِرُ منفعته في نهاية المطاف (وهذا شيء مشروع تماماً)، وكانت الدولة هي الجهة التي ترتقي بوضعه المادي والمجتمعي. الجانب الثاني يتمثّلُ في أنّ كثرة من سكان العراق ليسوا ذوي انحدار عشائري أو بدوي (مسيحيون ويهود ومندائيون،،،) فضلاً عن تراجع العصبية العشائرية بين سكّان الحواضر المدينية الكبيرة. أما الجانب الثالث فهو أنّ معظم سكان عالمنا لازالوا يُظهِرون تناشزاً بين بداوة وحضارة (ربما الأصح وصفها بالمدنية)، ودعونا لاننسى هنا أنّ كثرة من الأمريكيين يرفضون تعليم أولادهم بعض النظريات العلمية الحديثة (نظرية التطور الداروينية وكروية الأرض مثالا) ويفضّلون عليها المرويات الدينية، ونعلم أن الأصولية الدينية هي إحدى مظاهر البداوة إذا مافهمنا البداوة نظيراً للعصبية في جانب منها.

يبدو أمراً يسيراً أن يرتكن المرء زاوية من بيت أو مقهى، ثمّ يرتشف الشاي وهو يفكّرُ في نسج حكايات مشابهة لحكاية (مُلّا عليوي) !