بئر برهوت .. فم على الفن.. فم على الغضب

Saturday 24th of July 2021 09:36:44 PM ,
العدد : 4987
الصفحة : عام ,

حنون مجيد

تأتي أهمية القصة القصيرة جداً من خلال معطيات كثيرة، يبرز من بينها السؤال الذي تقدمه بدءاً من العنوان، وما ينشأ جراء تشابكه مع المتن في تعيين دلالة النص التي غالباً ما تكون مضمرة على التلقي السريع.

وقد يتبادر إلى الذهن أولاً أن القصة القصيرة جداً كتبت أول مرة على يد ناتولي ساروت في كتابها "انفعالات" الذي صدر باللغة الفرنسية عام 1938وقد حُسب، أوربيّاً،على جنس الرواية الحديثة، قبل أن يترجمه إلى اللغة العربية فتحي العشري عام،1971مدوّناً على صفحته الثالثة "قصص قصيرة جداً".

بينما ترجم لنا القاص والمترجم حسين حسن أربع قصص قصيرة جداً، نشرها في ملحق الجمهورية عام 1966، تحت عنوان " قصص السطور الثلاثة" لكاتب فرنسي اسمه فليكس فينون، نشرها بين عامي 1905 و1906 بحسب كتاب" شعرية القصة القصيرة جداً" للناقد الدكتور جاسم خلف الياس، وكنا قرأنا ذلك في الملحق آنذاك.

ولربما كان من ابرز الأحداث الأدبية فيما يتعلق بهذا النوع من السرد الجديد بعد انفعالات، صدور مجموعة القاص إبراهيم أحمد " عشرون قصة قصيرة جداً " عام 1977 في كتاب مخصص لهذا النوع من القص، وهي أبرز مجموعة من هذا النوع تصدر تزامناً مع مجموعة "العيون" لخالد حبيب الراوي، ومجموعة " تخطيطات" لحمدي مخلف الحديثي، بحسب د. جاسم خلف الياس، كذلك، ولقد كتبها في العراق ، قبلاً وبعداً، قصاصون مرموقون أغنوا الساحة بنتاجهم، ومهدوا الطريق لغيرهم من اللاحقين.

ومجموعة القصص القصيرة جداً التي جاءت على هذا العنوان؛ " بئر برهوت" تندرج ضمن هذا النوع من القص القصير جداً والمكثف والمتسارع، وتكتسب أهميتها على مقدار أمانتها على هذا النوع السردي، الذي ما يزال يثير الجدل حول قيمته الفنية وقدرته المتوالية على بعث أسئلة العصر حول جدوى الفن في مقاومة ما يحيط بالحياة من عوامل الفتك والفناء.

وليس خافياً على أحد الآن أن هذا الشكل من الفن، بالرغم من حداثته وقصر قامته، ولكن جراء مبلغ حساسيته المتألقة لما يسود الحياة والوجود، غالباً ما يستدعيك للارتفاع أعلى قامتك لبلوغ أقصى مراميه.

مارست هذه المجموعة مع متلقيها صدمة التلقي منذ لحظة العنوان، وكان عظيماً لو أنها ظلت متكتمة عليه، حتى انغلاق الكتاب على آخر قصة فيه.

وليس من شك في أن القاص جابر محمد جابر كرّس جهداً محموداً لإصدار مجموعة قصصية على هذا النوع، تقوم على فرضية الوعي الفني لدى قارئها، في ما يتعلق وكيان هذا القص، الذي يتسم أكثر من غيره ببعدي الداخل والخارج، مثلما يتسم بصغر الحجم، قياساً على حجوم النصوص الأخرى كالقصة القصيرة والرواية مثلاً، واعتماد التكثيف الصارم في اللغة والفكرة، وصدمة النهاية ومخالفة التوقعات والبعد عن الوصف والتفاصيل، وما تنتج وتطرح من أسئلة كبرى وصغرى، ومواصفات واشتغالات كثيرة أخرى.

تبدأ المجموعة بقصة " نجمة " ص7 وتنتهي بقصة " العربة الخشبية " ص87 وقد توفرت فيها كافة عناصر القصة القصيرة جداً, التي بدأت تتفشى في الأوساط الأدبية والثقافية، ويتصدى للإبداع فيها خيرة الكتاب على مستوى العراق والعالم العربي، والعالم الآخرعلى حدّ سواء.

تترك قصص هذه المجموعة، في سمتها العامة، بابها مفتوحاً على تعدد النهايات، وبالتالي على تباين الاستجابات والتأويلات الأمر الذي يقتضيك التفكير في قراءة أخرى أو قراءات أخريات.

وتمارس هذه القصص لعبة التملص من اللغة المباشرة؛ اللغة المتوقعة، إلى اللغة المتشابكة المتضادة التي تنزلق بك إلى غير لغتك؛ " .... ورحلت أبحث عن نجمة بلا ذنوب" ( ...) نجمة توقظ مفاتن خيباتي التي تركها القدر تنام أسفل سريري.. أمسكت النجمة متلبسة بالجمال.." قصة "نجمة" ص 7. " .... خشيت من تمرّد الذاكرة، ومشاكسات القمر(... ) وهي غالباً ما تترك معطف الحقيقة، في غرفتي وتغادر بلا ذنوب.." قصة "معطف الحقيقة" ص 8.

كما يميل كثير منها إلى الغموض والإبهام حتى ليظنّ المتلقي أنها تنطوي على رسائل وجدانية خاصة، جاءت على لغة إشارية غائمة وغير محددة؛ "...لم يعد مرفأ الصبر ملاذي أو حتى قريباً مني ، ومياه دجلة لا تستطيع أن تطفىء حرائق وجداني (...) بمزاجي فقط سأسمح لرصاصات الغيم أن تفترش أحزاني..." قصة " السهم الطائش" ص 9

تهدف هذه القصص، من بين ما تهدف إليه، إلى فضح الواقع الاجتماعي بكل ما أفرز من سوءات وخلّف من خيبات، ليكون انتظار مجيء الأماني فيه، حصيلة العمر ولو سيراً على عربة بلا عجلات؛

" ... مضت الدقائق بطيئة كسلحفاة ثم فجأة لاذت بأشجار الحزن لتحوّل جسدي إلى كتلة من الجمر المتقد ( ....) لمحتُ عصافير الزمن تكركر لوحدها، قلت في سري هذه تدعو للتفاؤل قادماً سيراً على الأقدام، أو بعربة بلا عجلات، المهم أن يزورنا! " قصة " عصافير الزمن ص11

وتتوالى قصص من هذا النوع منطوية على ما سبقت الإشارة إليه، من مثل قصص، بئر برهوت، السهم الطائش، لص، أنا وعلاء عاشور والحقيقة، حيرة امرأة، القروي، رسالة طفل عراقي بامتياز، العمائم الفاسدة، أساور الحقيقة وغيرها تجلّت فيها القصدية المباشرة في التصدي لظاهرة القمع الاجتماعي وما يستتبعه من استلاب غير إنساني .

إنما يقع آخر منها في المباشرة الصريحة ليتضامن عنوانها ومتنها في الدلالة عليها، في صرخات غاضبة لم تجد في متنها سوى هذا النداء الصريح ، كما في قصة " صناديق الخوف"، مثالاً ليس وحيداً: "من وراء شرفة الأمنيات، أطلت فتاة في غاية الموت، ترتشف كأس السعال، تصرخ بأنفها.. لا للحياة البائسة، لا لأحلام الفقراء، نعم للقدر الفعال (...) هيا نذهب نحطم صناديق الخوف، نسترجع ثمن الوطن قبل أن يهرب اللصوص..." ص 47

إن متابعة هذا العدد من القصص يكشف لنا العدد الذي يماثله من الموضوعات التي تحيط بنا، ويمكن أن تكوّن عالمنا الداخلي؛ الصغير والفسيح معاً الذي تقيم نفوسنا عليه، لنقاوم به الجزء المظلم منها الذي يحاول كليّة أن يكتنفنا.

لقد اتسعت رقعة هذه المجموعة الصادرة عام 2021لتشمل موضوعات شتى ومفردات حياتية كثيرة، أهلتها لتكون موضوعاً حيوياً لقراءة جدية، برغم تفاوت المستوى الفني والتعبيري الذي جاءت عليه، وهو أمر غالباّ ما اتسمت به المجموعات القصصية والشعرية والمقالية على حدّ سواء.