الحضور العربي في كردستان: الحساسيات القومية في تراجع!

Sunday 25th of July 2021 11:12:00 PM ,
العدد : 4988
الصفحة : سياسية ,

 متابعة / المدى

في شارع "إسكان" وسط أربيل عاصمة إقليم كردستان، حيث يتزاحم في ساعات المساء المتسوقون وقاصدو المطاعم والمقاهي، حتى تصعب الحركة على أرصفته التي تملأها عربات الباعة المتجولين، تتناغم اللغتان العربية والكردية وتختلطان إلى حد الامتزاج على ألسنة رواد الشارع من المواطنين العرب والكرد، في مشهد يشي بحجم الحضور العربي في قلب الإقليم الكردي.

لجذب المشترين من السياح والمقيمين العرب في الإقليم، والذين وصلت نسبتهم بعد موجات النزوح عام 2014 الى نحو ربع السكان، يروج بعض الباعة لبضائعهم بالعربية وكذلك يفعل عاملو الاستقبال في المطاعم و"الكافيهات"، وهنالك في الواجهات المتقابلة على طول الشارع الرئيس وفروعه تواجهك اللافتات الدعائية المكتوبة باللغتين.

قبل 18 عاماً من الآن، كان الحضور العربي في أربيل محدوداً جداً ومن يعرفون العربية يقتصرون على أبناء أجيال ما قبل الانتفاضة الكردية ضد نظام "حزب البعث" عام 1991.

محمد أحمد (58 سنة) من بغداد، يقيم حالياً في الولايات المتحدة، مكث في اربيل لسنوات في نهاية تسعينيات القرن المنصرم، هرباً من ملاحقات "حزب البعث"، يقول إن الجيل الناشئ وقتها في المدينة كان يعرف اللغة الكردية وثقافتها فقط، وكان عليه الاستعانة في كثير من الأحيان بأصدقاء كمترجمين ليتواصل مع العراقيين العرب. "كل شيء تغير اليوم" يقول محمد الذي يعود لزيارة الاقليم بعد نحو عقدين، ويرى ان اربيل أصبحت اليوم مدينة مختلفة ولم تعد فيها حساسيات قومية وحواجز لغوية.

في متاهة تعرجات أسواق القلعة التاريخية تجد في كل مكان متسوقين عرباً مقيمين في الاقليم او أتوا من محافظات وسط وجنوبي البلاد بقصد السياحة، وتلبية لمتطلباتهم تجد محال متخصصة ببيع الملابس العربية التقليدية، الرجالية منها والنسائية. وأينما حللت في المدينة تجد مواطنين عرباً يعملون في كل القطاعات الخدمية والتجارية والصناعية.

اندهش محمد عندما صادف سائقي سيارات أجرة وأصحاب متاجر يبادرونه متحدثين بالعربية، وبخلاف الماضي، لاحظ تزاحم اللافتات العربية في الأسواق والفنادق والمطاعم وعيادات الأطباء والمختبرات الصحية والمستشفيات والورش. "لم يكن ذلك مقبولاً فيما مضى" يتابع مسنداً ظهره الى جدار القلعة، مشيراً إلى أقدم أسواقها في الجهة المقابلة "كانت اللافتات التجارية وغيرها كلها بالكردية، والكتابة بالعربية كانت في بعض المناطق ممنوعة كرد فعل لمواجهة حملات التعريب التي قام بها النظام السابق قبل 1991".

الإقليم الملاذ

الباحث في شؤون الأقليات عبد الصمد محمود، يذكر بأن العلاقات الاجتماعية بين الكرد والعرب كانت متماسكة لقرون عدة، فجنوب كردستان حيث العمق العربي كان يشكل بعداً تجارياً واقتصادياً للكرد. وفي المقابل كانت العشائر العربية قد أجرت تفاهمات مع نظيراتها الكردية ونقلت في مواسم احتباس الأمطار قطعان الماشية لترعى في مناطقها ولاسيما في سهل السندي في محافظة دهوك.

واعتاد المواطنون من جميع مدن العراق تمضية العطلات، خصوصاً الصيفية، في مناطق الإقليم السياحية بسبب المناخ والمناظر الطبيعية التي يتمتع بها. لكن سياسة التعريب وحملات الأنفال التي قام بها النظام البعثي في الثمانينيات وقتل على إثرها آلاف المدنيين الكرد "أثرت في تلك العلاقات كثيراً"، بحسب عبد الصمد، الذي يلفت إلى أن "أجهزة نظام حزب البعث كانت تعمل على إحداث قطيعة بين الكرد والمجتمع العراقي من خلال عدم السماح للكرد غير البعثيين بالانخراط في المنظومة الأمنية والعسكرية أو تولي الوظائف المهمة، إلى جانب منع تسجيل الأراضي بأسمائهم في بعض المناطق". وبعد انغلاق المحافظات الثلاث على نفسها بحماية دولية بين 1991-2003 تحول الإقليم بحسب عبد الصمد إلى "فردوس للهاربين من قمع النظام السابق" ومحطة يتوقفون فيها لالتقاط الأنفاس قبل الخروج من البلاد لتتقاسمهم المهاجر.

أعداد متزايدة

بحسب علي سندي وزير التخطيط السابق في حكومة الإقليم، فإن عدد النازحين من بقية مناطق البلاد والمقيمين في الإقليم يصل إلى نحو مليون ونصف المليون شخص بحسب إحصاءات تعود إلى عام 2018، فيما يبلغ عدد سكان الإقليم خمسة ملايين و900 ألف.

عاد قسم من هؤلاء النازحين خلال الأعوام الثلاثة المنصرمة لكن آخرين قرروا البقاء والاستقرار في مدن الإقليم لما توفره لهم من أمن وفرص عمل، إذ يتواجد في محافظة إربيل وحدها وفق أرقام حكومية، نحو 280 ألف عربي، من مجموع سكانها البالغ نحو مليون و200 ألف، أي أن قرابة ربع سكان المدينة هم من العرب.

تقول أم حسام، وهي موصلية نزحت الى اربيل في نهاية عام 2014 إن عائلتها المؤلفة من ستة أشخاص قررت الاستقرار في اربيل بشكل دائم، "اثنين من اولادي في الجامعات وإحدى بناتي في مدرسة حكومية تدرّس بالعربية، وابني الأكبر يعمل هنا في شركة خاصة". تضيف السيدة الخمسينية التي تسكن في مجمع سكني بمنطقة الاسكان: "هنا نعيش في استقرار أمني، والخدمات جيدة، ولا نشعر بأي تمييز اجتماعي ولا بالغربة… فلماذا نعود؟".

اللغة ليست عائقاً

على أنغام أغانٍ من التراث الكردي، يستقبل صاحب مقهى شعبيٍ في شارع "إسكان" زبونه الدائم أحمد الفلوجي بعبارة الترحيب الكردية المميزة "به خيربــيى" فيرد عليه الأخير بالعبارة ذاتها لكن ببطء محاولاً قدر الإمكان ترديدها بلكنة سليمة. الفلوجي (55 سنة) نازح منذ سبع سنوات من محافظة الأنبار غربي العراق، اعتاد أن يختتم نهاره بساعة مسائية يمضيها في المقهى قبل مغادرة السوق إلى بيته القريب في شقق الإسكان التي تعج بالمقيمين العرب.

يقول الفلوجي إن النازحين واللاجئين كونوا علاقات وطيدة مع المواطنين الكرد وأصبحوا جزءاً من النسيج الاجتماعي في مدينة أربيل. فهم في السوق، يبيعون ويشترون، ويعرفون المطاعم التي تقدم أفضل الأطباق والمقاهي التي يمكن أن تحتسي فيها أطيب "استكان شاي" وصاروا يعرفون أزقة المدينة جيداً.

خلال سنوات إقامته السبع، تعلم الفلوجي اللغة الكردية، فهو يفهم الأحاديث بنحو جيد لكنه ما زال يجد صعوبة في الكلام "كذلك معظم اخوتي الاكراد يفهمون العربية لكنهم يتكلمونها بلكنة متعثرة".

لكن محمد علي (36 سنة) العربي الآتي من صلاح الدين، والذي يعمل في مطعمٍ شعبي بحي قديم وسط اربيل، تمكن خلال سنوات قليلة من اجادة الكردية وتحديداً اللهجة السورانية التي يستخدمها سكان أربيل والسليمانية: "تعلمت الكردية خلال عملي في المطعم. لم أقم بالتسجيل في معاهد تعليم اللغة. الاختلاط في العمل والشارع يجعلانك تتعلم بسرعة. اغلب الزبائن هنا من الكرد لذلك اكتسبت لغتي من خلال الحديث معهم".

بخلافه يقول مراد قاسم (32 سنة) إنه لم يستطع تعلم الكردية على رغم مرور 8 سنوات على إقامته في أربيل، عازياً الأمر إلى كونه يعمل في محل "كوافير" في منطقة "أوزال ستي"، حيث أغلب المقيمين هناك من العرب وتسود اللغة العربية هناك. وعدم تعلم اللغة الكردية بالنسبة للمقيمين العرب هو الشائع، فالمواطنون الكرد هم من يسعون لتعلم العربية، بخاصة ممن يعملون في الأسواق التجارية والشركات والمقاولات أو في قطاع الخدمات والفنادق والسياحة فضلاً عن أصحاب سيارات الأجرة.

الاندماج الثقافي والاجتماعي

تفرض العادات والتقاليد في إقليم كردستان مبالغ كبيرة على من يتقدم لخطبة فتاة كردية، ومع تراجع الامكانات المالية لأهالي الاقليم في السنوات الاخيرة التي شهدت نزوح آلاف العائلات العربية الى المدن والقرى الكردية واختلاطهم بسكانها، ظهرت حالات مصاهرة بين المكونين نتيجة إقبال بعض الشبان الكرد على الزواج من عائلات عربية.

وأصبح من المألوف أن يتقدم كرديٌ بطلب يد فتاة عربية، لتأسيس حياة أسرية تخلو من الديون التي قد تفرضها متطلبات الزواج الباهظة من فتاة كردية.

دلشاد يوسف، الذي جاوز عقده الثالث، هو واحدٌ من الذين أقدموا على هذه "الحيلة"، فعمله كمحاسب في مركز تجاري بالسليمانية لم يكن ليؤمن متطلبات الزواج بكردية، ويقول: "كنت سأحتاج في أقل تقدير إلى عشرين الف دولار لو تزوجت باحدى بنات اقربائي، وأنا أسكن شقة صغيرة ببدل إيجار يبلغ 200 دولار". كلفة زفافه بلغت 5000 دولار ، و"نحن سعداء ويسود بيننا التفاهم والاحترام". يرى الباحث الاجتماعي بيار حاجي، أن حالات الزواج بين المكونين التي حصلت في السنوات الأخيرة أمر طبيعي نتيجة الاختلاط والتلاقي الثقافي والاجتماعي، وهي حالات كانت موجودة بشكل محدود قبل عقود من الزمن لكنها اختفت في مطلع تسعينيات القرن الماضي. ويقول حاجي، إن "تعايشاً إيجابياً حصل في السنوات الأخيرة، وغلبت العلاقات الإنسانية النزعة القومية، فقد كانت هنالك أفكار وتصورات مغلوطة مترسخة في ذهنية المواطن العربي عن اقليم كردستان بفعل السياسات الخاطئة والعكس أيضاً، لكنها تغيرت بمجرد حدوث الاختلاط، وغطت المشاعر الانسانية على الكثير من الأمور".

أمن وقانون وفرص

"كل شيء منظم هنا وكأنك في دولة أوروبية، الإجراءات والقوانين واضحة لتشجيع الاستثمار. نعم المنافسة أكبر لكن أسعار العقارات أرخص والتسهيلات كثيرة، ولن يضيع لك مال هنا"، يقول المقاول أبو علي من الموصل متحدثا عبر الهاتف الى صديق من مدينة البصرة جنوبي العراق، محاولاً إقناعه بالانتقال إلى كردستان. بالنسبة إليه، يمثل الإقليم قصة نجاح في المجال الاستثماري وهناك بنية تحتية أفضل ومستوى خدمات أعلى وتطوراً اقتصادياً لافتاً إلى تراجع معدلات البطالة والفقر: "جزء كبير مما تحقق يرجع الى عامل استتباب الأمن وقانون الاستثمار لسنة 2006" يقول أبو علي بامتنان ويضيف أن القانون يتيح للمستثمرين إعفاءً ضريبياً لعشر سنوات وأرضاً مجانية لأصحاب المشاريع الضخمة فضلاً عن تخفيضات جمركية كبيرة. أبو علي كان يعمل في مجال المقاولات الإنشائية في مدينة الموصل، لكنه تعرض إلى تهديدات بالتصفية قبل أعوام طويلة ونجا من محاولة اغتيال لأنه رفض إعطاء تنظيم القاعدة نسبة 10 في المئة من أرباح المشروع الذي ربح مناقصته من مديرية تربية نينوى.

بعد تلك الحادثة اضطر الى ترك المدينة والانتقال الى الإقليم، "كان ذلك في خريف 2017، بدأت حياة جديدة وقررت خوض العمل في الحقل ذاته، منذ ذلك اليوم وإلى الآن لم أتعرض لأي ابتزاز أو تهديد، نعم المنافسة كبيرة والأرباح أقل لكن ما دمت قد حصلت على الموافقات الرسمية والتسهيلات اللازمة، لا شيء يمكن أن يعطلك ويشكل خطراً على عملك".

وعن انخراط أبو علي وغيره من العرب في الحياة الاقتصادية في الإقليم، يرى الخبير الاقتصادي ادريس رمضان كوجر أنهم "أصبحوا جزءاً من القطاع الاقتصادي ودخلوا سوق العمل ولهم دور إيجابي في ذلك خصوصاً في قطاع الخدمات وعمليات البناء والإعمار".

ويشير كوجر الى أن الأمن المتوفر والبنية التحتية والخدمات التي يقدمها الإقليم هي ما تحفزهم على الاستثمار: "المواطنون العرب هنا في أربيل لا يشكلون مجرد قوة شرائية فقط كما يعتقد البعض. نعم هم ينفقون الأموال في التسوق والسياحة والترفيه والاقامة، لكن أيضاً يستثمرون أموالهم في إقامة المشاريع ويحققون ارباحاً".

أنجز التقرير بدعم مؤسسة "نيريج" للصحافة الاستقصائية