الانتخابات العراقية المبكرة ومخرجاتُها النوعية (لا العددية) المتوقعة

Tuesday 5th of October 2021 10:44:11 PM ,
العدد : 5037
الصفحة : آراء وأفكار ,

توزيعٌ جديد لعناصر القوة السياسية أم احتكارُ النظام مجدداً لكامل السلطة؟!

 فارس كمال نظمي

مع تناقص الوقت المتبقي لإجراء الانتخابات البرلمانية "المبكرة" في 10/ 10/ 2021، تشتد النزعة الشعبوية في الخطاب الرسمي والحزبي والدولي (بعثة الأمم المتحدة وحكومات غربية) بالترويج لهذه الانتخابات بوصفها لحظة "مفصلية" لوضع البلاد على عربة "الإصلاح"،

ضمن إطار الخلط الديماجوجي المتعمد للمطابقة بين مفهومي الانتخابات والديمقراطية. وتترافق هذه النزعة الشعبوية -المسيطرة على العقل السياسي المنظومي الحاكم- مع تفكير رغبوي ساذج، وأوهام "مريحة" بإمكانية التحكم بالأحداث القادمة، وإنكار مفزع للغضب الأخلاقي واليأس العدمي الكامنين في أعماق المجتمع.

لطالما كان السؤال الأكثر إلحاحاً في ظروف انتقالية كظروف العراق هو: متى يمكن للانتخابات أن تكون وسيلة لإعادة بناء الخريطة السياسية بما يقلل الاحتقان المجتمعي ويزيد فرص السلم الأهلي عبر تمثيلٍ سياسي متجدد يعيد توزيع الحقوق الاجتماعية المنتهكة على نحوٍ أقل غُبناً؟ وبالمقابل، متى يمكن للانتخابات أن تصبح – بنتائجها الفعلية لا الرقمية- عبئاً جديداً/ قديماً يضاف إلى عربة البلاد المحمّلة سلفاً بكل أنواع الآلام والمظالم والأزمات؟ وبمعنى أكثر تركيزاً، متى تصبح الانتخابات وسيلة ديمقراطية ناجعة لإيجاد منافذ عملية لتلاقح القديم بالجديد على درب التطور السياسي السلمي؟ ومتى يُراد من الانتخابات أن تكون أداة "تجميلية" لترميمٍ مؤقت لـ"شرعية" النظام القديم فحسب؟

أفهمُ التطور/ الانتقال السياسي (سلمياً ديمقراطياً كان أم استثنائياً ثورياً) في كل عصر وفي بلد، على انه إعادة توزيع القوة السياسية في المجتمع والدولة وفق معطياتٍ اقتصادية- ثقافية مستجدة (أي وفق ديناميات الصراع الطبقي بحواضنه الايديولوجية والهوياتية) تسمح بزحف الأكثرية السكانية إلى مسافة أقرب من ثروات بلادها، بالتزامن مع اقترابٍ أشد من مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين الأفراد والجماعات ضمن إطار دولةٍ تتقدم بمرر الزمن نحو ضمانٍ أكبر للحريات العامة والخاصة. وبدون ذلك فهو ليس تطوراً سياسياً بل انسداد/ عقم/ احتضار سياسي.

وعند الحديث عن الانتخابات البرلمانية عامة بوصفها (أو هكذا يُراد لها نظرياً) وسيلة للتطور السياسي السلمي، فإنها من "المفترض" أن تسمح بتوزيعٍ جديد –مهما كان محدوداً- لموازين السلطة، وبادماج الجديد المتحرك بالقديم الساكن في إطار السلطة التشريعية الرقابية بما ينعكس إيجابياً على بنية ووظيفة السلطة التنفيذية وحتى القضائية، سعياً لإنتاج "شرعية" سياسية تحقق تمثيلاً أوسع داخل المجتمع بما يستوعب جزءاً من القوى الجديدة البازغة من معادلات الحرمان والاستبعاد، ومن ضرورات الحراك الثقافي والايديولوجي في آنٍ معاً. ودون ذلك فإن الانتخابات تغدو ليس أكثر من مسرحيةٍ يُعاد إنتاجُ النص السابق فيها بشخوص "جدد" أو قدامى دون السماح بتلاقحٍ مع نصوص جديدة، أي تتم المحافظة على "الشرعية" الدستورية للمنظومة العتيدة دون اعتبار للجمهور الغاضب أو اليائس خارج أبواب المسرح. وهذا هو الانسداد/ العقم/ الاحتضار السياسي للمنظومة.

فإلى أي حد يمكن توظيف هذه الرؤية في تقييم الانتخابات العراقية "المبكرة" القادمة؟ وإلى أي مدى ستسمح المنظومة الفاسدة بإعادة النظر في عملية توزيع عناصر القوة السياسية في ضوء الحدث التشريني الكبير 2019؟ فالذي حدث في تشرين هو نهوض جيلٍ شبابي ثوري اقتحم المجتمعين السياسي والمدني على حد سواء، بهدف التغيير ضمن ثنائية "استعادة الوطن/ أخذ الحق"، دونما تعكزٍ ايديولوجي نمطي، حاملاً لثقافة سياسية لا حزبية تؤمن بالمساءلة والمشاركة بدل الخضوع والقداسة. وهذا قد خلق – في نظر من يمارس الإدراك الواقعي دون إنكارٍ هروبي أو تجنبٍ رغبوي- عنصراً جديداً في الفيزياء السياسية لهذا المجتمع، خصوصاً إن النطاق السكاني للحدث التشريني هو ذاته النطاق الذي تستمد منه القوى الأساسية في المنظومة الحاكمة رأسمالها الانتخابي والاجتماعي والديني.

فهل ستأخذ العملية الانتخابية الحالية بالحسبان هذا التطور الأساسي في الفيزياء السياسية -ولو جزئياً- في أن ثمة جيلاً جديداً ينتظر تمثيلاً منصفاً بدرجة ما داخل المجتمع السياسي؟ أم إنها إجراء فني رقمي ليس إلا، يسعى للاحتفاظ بكامل سلطة الريع والسلاح منكراً التحديات السوسيوسياسية العميقة الناشئة قبل تشرين ومن خلالها، ومتجاهلاً كل تحولات الهيمنة الثقافية في البلاد خلال العقد الأخير للانتقال من الأسلمة والطائفية إلى المواطنة والوطنياتية؟

* * *

إن مراقبة متأنية للحملات الانتخابية الحالية تكشف عن الآتي:

- هيمنة الكتل السياسية الحاكمة منذ 2003 على هذه الحملات كلياً من النواحي المالية والإعلامية واللوجستية، بما تتضمنه من تصريحات إقصائية تسقيطية تصدر يومياً عن زعمائها.

- غياب تام لأي برامج جذرية تمتلك رؤية واقعية وعملية محددة؛ فضلاً عن ركاكة وتفاهة الخطاب السياسي الانتخابي عامة.

- غياب أي محاولات لتشكيل تحالفات انتخابية عابرة جوهرياً للهويات الفرعية، بل يلاحظ انقسامٌ وتشظٍ وتنازع داخل الأطر الهوياتية التقليدية.

- تحوّل الحكومة الحالية إلى شاهد زور متهافت يحاول إقناع الجمهور بأنها إنتخابات "تشرين" بعد أن "نجحت" في تفكيك تشرين إلى تشرينات متناثرة، وبعد أن قامت الثورة المضادة بالتماهي الإيهامي بأحد الشعارات غير المتفق عليها تشرينياً (أي شعار الانتخابات المبكرة) وتسويقه في سياقٍ تعبوي آخر غير سياقه الثوري الأساسي آنذاك.

- المحاولات الإعلامية المستمرة لتوجيه أنظار الجمهور إلى الجهود اللوجستية والأمنية المبذولة لمنع التزوير الحسابي للأصوات وكأنه الفيصل الوحيد الذي سيحدد مدى شرعية التمثيل السياسي الذي ستنتجه الانتخابات، على الرغم من أن هذا التزوير –إذا حدث- لا يعدو كونه في جزئه الأعظم تلاعباً بأرقام الحصص المتغانم عليها داخل فضاء الكتل السياسية الحاكمة نفسها وليس خارجه، ولا تأثير حقيقي له في نوع المخرجات السياسية اللاحقة.

- أما التزوير الفارق والمؤثر فهو تزوير الوعي، متمثلاً بالتحشيد العاطفي الناعم لشرعنة السلاح المنفلت على مقاعد البرلمان القادم، وتوظيف المال السياسي المنهوب داخلياً والمستورد خارجياً إلى أقصى مدياته للتأثير في خيارات الناخب واستبدال وعيه الناقد بوعي زائف (وكل ذلك في ظل تعطيل قانون الأحزاب الذي يمنع ارتباط أي حزب بأي قوة مسلحة كما يمنع ارتباطه التنظيمي أو المالي بأي دولة أو جهة خارجية - المادة 8 ثالثاً والمادة 25 أولاً).

- استخدام تكنيك المرشحين "المستقلين" ليكونوا رصيداً غير مباشر فيما بعد لصالح الكتل السياسية النافذة. وكذلك الاستفادة القصوى من قانون الدوائر الانتخابية المحلية المتعددة لأغراض التحشيد المناطقي والهوياتي (دينياً وعشائرياً) بما يمنع نشوء أي تيارات سياسية انتخابية عنوانها الهوية الجامعة لتغطي مساحة البلاد.

- استمرار حملات الشيطنة والتخوين والتهديد والتهجير والتصفية والاستبعاد –حتى الانتخابي- ضد نشطاء تشرين وتنظيماتها السياسية المستجدة (المشارِكة أو المقاطِعة)، والإصرار على رفض ممارسة الحد القضائي والاعتباري الأدنى من إجراءات العدالة الانتقالية لإنصاف آلاف الضحايا التشرينيين الذين تحولوا إلى سردية تاريخية كبرى ضمن الذاكرة السياسية العراقية الفاعلة اليوم وغداً.

وإلى جانب ما تقدم، نشهد مقاطعة انتخابية منظمة محدودة أعلنتها بعض التنظيمات الحزبية التشرينية واليسارية بالاستناد إلى تحليلات جذرية ترى في المقاطعة نوعاً من المشاركة السياسية الفاعلة للاستثمار في الفضاء الاجتماعي بدل الفضاء البرلماني، ووسيلة لحرمان المنظومة الحاكمة من أي "شرعية" سهلة تريد حصدها من هذه الانتخابات. أما شعبياً، فلا تتوافر معطيات محددة عن نسب المقاطعة الفردية المحتملة، لكننا نشهد فتوراً انتخابياً حد تناسي الحدث لدى المواطنين عامة – بما فيهم جمهور الأحزاب المسيس نفعياً أو قداسياً- إذ يتوزعون بين العدمية واليأس والاغتراب واللامبالاة والتهكم والولاء الهوياتي الباهت والاعتقاد أن القرار السياسي في بلدهم لا تصنعه الانتخابات أو البرلمان بل تصنعه أقلية تجذرت في مفاصل السلطة الراضعة من فساد الدولة.

وبالمقابل، يرى بعض الناخبين أن أقصى ما يستطيعون القيام به هو التصويت لمرشحين "مستقلين" في مناطقهم على أسس هوياتية/ خدماتية، على أمل تمريرهم داخل قبة البرلمان القادم بما يخلق بؤرة للتغيير مهما كانت محدودة داخل كتلة الفساد السياسي الجاثمة على أنفاس البلاد. كما لا يُنكر وجودُ تيارٍ من المثقفين المبشرين بجدوى هذه الانتخابات بوصفها الحل "الوحيد"، إذ يختلط لديهم الجانب الأخلاقي بالجانب التحليلي، فيسقطون رغباتهم بانتقال ديمقراطي سلمي على الواقع السياسي الراهن، فتتحول الرغبات إلى أفكار. ويذهب مثقفون آخرون إلى تحليل أكثر واقعية بالقول بالجدوى النسبية للانتخابات ما دامت البلاد محكومة بمنظومة سياسية مغلقة لا يقابلها بديلٌ سياسي منظم قادر على إزاحتها.

* * *

مرة أخرى، وفي ضوء المؤشرات السابقة جميعاً، أتساءلُ عن نوع المخرجات الفعلية المتوقعة لهذه الانتخابات القادمة؟ الاحتمال الأضعف هو أن تنتج عن النخب المهيمنة تكتلاتٌ محدودة مرتبطة بها ولكنها أكثر براجماتية وقدرة على التفاوض مع عناصر القوة السياسية المستجدة خارج المنظومة، لتعمل على استنطاق البرلمان جزئياً ضد مراكز القرار المستبدة خلف الكواليس، لتخلق بذلك ديناميات جديدة تسمح بإصلاحات ثانوية تخفف من التغانم الإثنوسياسي الحالي وتمنع أو تؤجل "الانفجار".

أما الاحتمال الأقوى فهو إن مخرجات هذه الانتخابات – بصرف النظر عن نسب المقاطعة والمشاركة- ستعزز من نزعة النظام القديم للتمترس خلف المتحقق الرث وتأبيده، وانكار الجديد الواعد واستبعاده، أي تسويق النتائج الانتخابية الفاقدة للمركزية الوطنية المبعثرة بين عشرات الدوائر المحلية بوصفها (أي النتائج) "المعادل" السياسي للموجة الاحتجاجية التشرينية؛ بمعنى الاحتفاظ الاحتكاري الكلي بالسلطة دونما تقاسم أو تفاوض مع القوى الناهضة، وسط أزمات اقتصادية طاحنة، واستياء شعبي متزايد، وأفول حاد في ايديولوجيا الدين السياسي. وسيعني كلُّ ذلك تمهيداً تراكمياً لموجات احتجاجية جديدة قد لا يمكن الالتفاف عليها هذه المرة بانتخابات مبكرة جديدة، بل قد تصبح كل الآليات الديمقراطية عاجزةً عندها، بمواجهة جيلٍ أكثر استماتة من جيل تشرين..!