الانتليجنسيا العراقية:خنوع يفرضه المركز.. سطوع يضمنه الهامش

Tuesday 12th of October 2021 11:10:51 PM ,
العدد : 5042
الصفحة : آراء وأفكار ,

 د. نادية هناوي

شهد الواقع العربي المعاصر تحولات كثيرة، كانت نتائجها في الغالب سلبية انتهت به إلى أن يكون واقعاً مضطرباً ومتشرذماً بمختلف المؤثرات السريعة في معطياتها والتأثيرات الخطيرة في توصلاتها والمتضاربة فيما بينها، تاركة آثارها شروخاً وعلاماتٍ في الجسد العربي المكدود.

وفي مقدمة من طاله التأثير وبشكل خطير الانتليجنسيا العربية التي صارت أمام خيارين لا ثالث لهما: أما الاستقطاب انجذاباً للمنظومة البطريركية الرسمية بقوة علاقاتها ورسوخها، وأما الاستقلال حياداً عن المنظومة ونماذجها منحازةً إلى الغالبية المهمشة والمحرومة.

وليس الخيار سوى دوافع ومهيئات واستعدادات موجودة مسبقاً في الأفراد والجماعات مثقفين وأنصاف مثقفين ومتعلمين وعلى وفقها يستجيب المرء إلى أن يكون في أحد الموقعين: المركز أو الهامش.

وإذا كان من حسنات اختيار المثقف المركز أنه سيغدو تحت الأضواء معروفاً ومهتماً به وبعطاءاته؛ فإنّ هناك تنازلات لا مناص له من أن يقدمها وهي كثيرة غير أن أخطرها ضميره وحريته. أما حسنات اختيار الهامش فهي أنّ المثقف وإن بقي في الظل غير معروفٍ ولا مؤثر، فإنه سيكسب نفسه متمتعاً بالنزاهة والاستقلالية.

ومن جملة التساؤلات الجوهرية التي تفرض نفسها هنا بناء على طبيعة الاختيار أعلاه هي : أي المثقفين أكثر تأثيرا في المجتمع مثقف السلطة أم المثقف المستقل ؟ وإذا كان هذا الأخير في الهامش مغلوباً على أمره، فهل يعني هذا أن مثقف السلطة الذي هو في لب المركز سيكون قادراً على تعديل كفة الحياة مثقِفاً السياسة ورادما ثغرات السلطة ومهيئاً الأرضية للتوزيع العادل للثروة وتطبيق القوانين موجهاً الأفراد نحو مصالحهم بما يحقق للمجموع الرفاهية المعيشية ؟

ومن زاوية مخالفة كيف يستطيع المثقف المستقل المجرد من أية سلطة أن يكون مؤثراً في العموم أفراداً وجماعاتٍ مثقفين وغير مثقفين ؟ أم أن هناك من يتحكم بالواقع الحياتي وبضمنه بعض المثقفين ؟ هل تحتاج الثقافة إلى سلطة سياسة كي تستقطب الأفراد والجماعات على اختلاف توجهاتها ومشاربها ؟ أو أن السلطة السياسية بحاجة إلى الثقافة كي تحتوي المثقفين المستقلين ليعملوا تحت مظلتها بحرية واستقلالية مؤدين دورهم كفواعل ثقافية بلا شروط أو قيود ؟ وما دامت الثقافة هرمية وبهوية سياسية فهل يعني ذلك أننا لن نشهد تغييراً في نظرتها الكلاسيكية إلى المجموع بمعنى أنها في كل حين تتمادى أكثر في جعل المجموع أرضية، عليها تمارس فعلها المؤثر سياسياً وسلطوياً، كأن تفرض معاييرها قسراً عليه أو توجهه الوجهة التي فيها مصلحة القلة المتسلطة ؟

ولماذا يظل التحجر والرضوخ هما سر خنوع المثقف العربي ؟ وإذا كان التحجر يفرض فرضاً بقصد الاقتداء والاحتذاء، فكيف بعد ذلك يمكن للفرد أن ينفض عنه الجمود وينقلب على كل فرض وقسر ؟ ولماذا المجموع العربي سائر دوماً في طريق مرسوم ومنمذج؟ أهو الخوف من ارتياد مسارات جديدة أم هي قوة النماذج ورسوخها التي معها لا يستطيع العربي فرداً أو جماعةً التنصل منها ؟

لا خلاف أن الدراسات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تناولت الواقع العربي كثيرة ومتنوعة وهي تحاول معرفة أمراضه. ولعل بعض تلك الدراسات وضعت الأصبع على موضع الجرح العربي، محددة عوامل الفرقة المجتمعية ودواعي التناحر الثقافي، مبتغية الوقوف على الأسباب التي معها ما عادت وحدة الدم واللسان والدين والتاريخ والمصير تفعل فعلها القومي والإنساني في الذات العربية.

من المؤكد واقعياً ومبدئياً أن المعضلات التي يواجهها واقعنا المعاصر أساسها ومرتكزها هو الإنسان، وليس من السهل حل أية معضلة واقعية أو على الأقل مواجهتها من دون غوص حقيقي في دواخل الفرد العربي لغرض الكشف عن سر أزمة الذات العربية ومعرفة حقيقة كنهها.

وليس مثل المثقف شخصاً يمكنه التمثيل على هذه الذات، وأعني بالمثقف من كان له وعي اجتماعي ذاتي، وما عدا ذلك ليس مهماً أن يكون متعلماً أو نصف متعلم أو يكون متخصصاً أو غير متخصص مستقلاً أو غير مستقل. إذ المهم هو أن تتجلى صورة المجتمع في أقواله وأفعاله وتتوضح الإشكاليات من خلال تحليلاته وتبين الحقيقة أو بعضها في وجهات نظره التي فيها يشخص إيجابيات الواقع وسلبياته.

وقد لا نندهش إذا علمنا أنّ الثقافة العربية بكل ما لديها من تاريخ نهضوي وامتداد تنويري تنطوي على مفارقة الانشطار بين مركز وهامش، وليست هذه المفارقة وليدة اليوم؛ بل هي نتاج فعل نهضوي بدأت بممارسته في مطلع القرن العشرين ثم سرعان ما تحول إلى منظومة ثقافية رسمية عامة كابحة وبطريركية، هذا إلى جانب أنها تجسدت قبل ذلك كله كسلطة متخيلة تفرض تأثيرها وتمارس صلاحياتها لا على الوعي الفكري حسب؛ بل على المخيال أيضا.

ونعني بالسلطة المتخيلة القوة الثقافية التي تتحكم في الأفراد والجماعات بصورة لا واعية لكنها فاعلة، وتغور جينالوجيا في العقل الباطن الجمعي كأنماط سيكولوجية بالمفهوم اليونغي ونماذج تعسفية بالمفهوم البورديوي. وهو ما يوطد هيمنتها على المجموع على اختلاف مكوناته وانتماءاته وكياناته وطوائفه وتحزباته.

والسمة الدالة والمرئية على وجود هذه السلطة هي النزعة البطريركية التي كلما كان المجتمع عميق التجذر في التاريخ وله امتداد جغرافي كبير كان الامتثال للبطريركية أكثر فاعلية وكان الانجذاب للمركزية أكثر قوة ورمزية.بمعنى أن العلاقة بين السلطة المتخيلة والنزوع البطريركي هي علاقة استقرار وقوة، محصلتها الثبات والاستحواذ بفحولية التفوق وذكورية الاستعلاء اللتين بهما يتوسل إلى فرض التقليد والسير على المنوال خشية من التغيير واجتنابا لمفاجأته.

ومهما كان تاريخ المجتمع وأين كانت جغرافيته؛ فإن عددالخاضعين لهذه السلطة وذاك النزوع عادة ما يكون أقل بكثير من اللاخاضعين..ومع ذلك تكون القلة هي صاحبة القوة بسبب ما يمنحها المركز من هيبة وفاعلية، هي صورة واقعية للسلطة المتخيلة.

وانطلاقا من فاعلية هذه السلطة التي تكتسب أهميتها من عاملية الجذب للعناصر المثقفة وغير المثقفة تتوكد لنا التراتبية المجتمعية التي فيها المركز هو قمة الهرم، والهامش قاعدته.وخطورة هذه التراتبية لا تقتصر على الثقافة حسب؛ بل تشمل المجتمع كله الذي غالبا ما يرتهن تطوره ويتوقف مصيره على مثقفي المركز الذين يتحدد دورهم في المحافظة على رسوخ المركز ثباتاً على ما هو قائم. ليكون التغيير مرهوناً بمثقفي الهامش الذين إذا اتحدوا وتحركوا كانوا قادرين على خلخلة القاعدة التي معها يتخلخل المركز، وتتضعضع نمطية بطريركيته فتتحرك سواكن العقل ويتغير الوعي ويسير المجتمع سيراً لا تتحكم فيه الأقلية بالأغلبية؛ بل العكس ستكون الأغلبية هي الموجهة لدفة المجتمع والمتحكمة بسياسة الأقلية، متحملة عبء التغيير بكل صعوباته ووزر ويلاته .

وهذا الاحتمال بالتغيير الثقافي انطلاقا من الهامش سيغدو قويا كلما بالغت البطريركية في إهمال الهامش قاصدة الإبقاء على حركة المجتمع التاريخية ثابتة في مكانها لتفعل النماذج الثقافية فعلها الراسخ في الحياة.

ومن أمثلة التغيير المنطلق من الهامش ما مر به الواقع العربي من ثورات قادتها الجماهير العربية من أجل التحرير والاستقلال خلال القرن الماضي، وعلى أثرها شهدت الحياة العربية تغييرات جذرية على مستوى السياسة والدفاع والتعليم والصحة والمرأة وغيرها بدءاً من مرحلة النهضة التي جاءت في مرحلة انتقالية جعلت المثقفين قريبين من مركز الفكر والسياسة إلى ما بعد نكسة حزيران التي فيها اندحر المركز والهامش معا ثم انزوى الهامش معزولا مع مرحلة التطبيع والعولمة في الربع الأخير من القرن العشرين ثم عاد الهامش إلى الواجهة بثورات سميت بالربيع العربي، لكنَّ بُعدَ مثقفي الهامش عن قيادة تلك الثورات جعل المركز يلعب دوراً كبيراً في إفشالها.

وعلى الرغم من أن النمطية واللاتغيير تبعتان من تبعات السياسة الكولونيالية التي بسببها ترسخت الصورة البطريركية في بلداننا العربية؛ فإن مرحلتنا الحالية تقتضي من المثقف الإفادة من أدبيات ما بعد الكولونيالية من أجل تغيير أنماط التفكير والممارسة، ولكي تختفي تلك الصورة السلبية للمثقف الخانع والنرجسي النهَّاز للفرص والمتذبذب والفوضوي الذي يعلق على شماعة الواقع أخطاءه مبررا انكساراته وإخفاقاته.

بيد أن المؤكد تماما أن ثقافة المركز البطريركية ستظل لها السيادة وهي تمارس دورها الاتباعي للسياسة الاستعمارية. وهذه التبعية هي دليل تباعد عن الحركة العالمية التي أخذت تتمرد بقوة على أي تجذر أبوي يريد مصادرة الآخر أو إلغاءه. وما من سبيل أمام الفرد العربي لتجاوز الاتباعية والتخلص من سلطوية الوصاية أو على الأقل زحزحة رسوخها إلا بالثقافة بوصفها المادة الأولية التي منها تتشكل البنية المجتمعية أصلا وعليها يتوقف نماء المجتمع وتطوره.

وبسبب هذه الأهمية التي تنطوي عليها الفاعلية الثقافية تغدو خطورتها على المركز ومنظومته البطريركية كبيرة، لذا تضع في طريق المثقفين المغريات التي بها تستقطبهم لصالحها مستحوذة على قدراتهم بينما تضع العراقيل أمام الرافضين منهم، محاولة كبح لا نمطيتهم وردع دوافع التغيير داخلهم وبطرق شتى منها تجاهل عطاءاتهم النوعية أو تغييب أدوارهم المجتمعية ومعاداة توجهاتهم اللاتقليدية أو تسويف مشاريعهم والتنصل عن دعمها. وقد يصل الأمر إلى درجة تسفيه جهود هؤلاء سواء بتخوينهم أو بفرض العقوبات عليهم أو بالمطاردة والمقاضاة وربما التصفية.

وشتان ما بين فعل ثقافي لا نمطي، الغاية منه التغيير وبين فعل منمذج معتاد، الغاية منه الإبقاء على واقع الحال كما هو جموداً وتحجراً. ومن هنا يتوكد لنا أن ركود واقعنا العربي ليس سببه العموم الشعبي الذي لا حول له ولا قوة؛ وإنما السبب منظومته المركزية وأمراضها المزمنة المتمثلة في التفرد والتسلط والاستحواذ.