ما الشعر إلا زلَّة اللّسان

Saturday 23rd of October 2021 11:55:49 PM ,
العدد : 5048
الصفحة : عام ,

ناجح المعموري

وفرت لي دار المتوسط ، الأخ كريم ما ساعدني على قراءة فوزي كريم ناقداً وشاعراً . كنت سعيداً وفرحاً ، على الرغم من إنني اقتنيت كتاب فوزي كريم المهم " القلب المفكر ،

القصيدة تغني ، ولكنها تفكر أيضاً " واسعدتني جداً دراسات فوزي كريم وامتداداته الذكية والعميقة في مصادر الثقافة والفكر والتجارب الشعرية . وأدهشتني آراء فوزي الكثيرة والمتنوعة ، وجدت في نفسي شغفاً للكتابة عن الكتاب والتعريف به ، ونشرت مقالتين في ثقافية المدى ، لكني وجدت بالذي حققه فوزي بـ " القلب المفكر " اعتمادات مركزية على مصادر غربية كثيرة ، ويكتفي بالإشارة لها بدون ضبط كامل للمصادر . وتأكد لي هذا الامر بعدما قرأت عدداً من كتب فوزي كريم والعناية بذكر المصدر بالهامش بعيداً عن تكرار الصفحات وتحقيق الانسجام ، وتلك طريقة تلتقط المصدر وتذوبه احياناً ، وتستعين به ثانية مكتفية بإحالة واحدة فقط وتجاوزه في أحيان أخرى ، اذا اضطر النشر في مجلة اكاديمية مثل مجلة جامعة الكوفة .

لفت انتباهي الشاعر فوزي بكتابته عن ملحمة جلجامش ضمن دراسات كتابه " القلب المفكر "

" ظلت تجربة فوزي الشعرية مشدودة لتجاربه الاولى وأهمها " حيث تبدأ الاشياء / دار الكلمة 1969 / أرفع يدي احتجاجا العودة 1972 / جنون من حجر / وزارة الثقافة / بغداد 1979 / الاحساس بالمجهول ، بدء الانشغال بالحياة والمصير والشاعر أكثر المبدعين تورطاً بالشيخوخة ومتاعبها وتفلت منه تعبيرات لحظية . لأن الشعر أكثر الأنواع الأدبية انعكاساً للمشاعر الآدمية . في التعامل مع الحياة ، والإعلان عن الترقبات التي تظل ملازمة له وكأنه يعيشها لحظة بلحظة . وينتهز كل فرصة مواتية التي تداهمه ليقول سريعاً تخيلاته ، لأن الشعر هو الذي يتنفس التخيلات ويسجلها .

بالإمكان التكتم على حضورات عديدة ، والتستر عليها إلا ترقب المجهول والتقاط الهواجس الطاغية ، وكأنه يفكر بعقل فيلسوف على الرغم من أن الشعراء لا يهتمون بالفلسفة إلا ما ندر . وأعتقد بأن الشاعر فوزي كريم أحد الشعراء مع ادونيس والشاعر خليل حاوي أكثر اهتماماً بالشعر وتجاوره مع الفلسفة . وتعاطى ذلك أكثر من مرة ، ولعل دراسته المهمة عن الفيلسوف والشاعر " لوكر بتيوس " وقصيدته المهمة " في طبيعة الأشياء " هي الرائدة في هذا المجال وقد عرفت باهتمام فوزي كريم كذلك دراسته عن نيتشه وكرس فوزي القيم الابيقورية في تجربة لوكر بتيوس والذي اعتبر الصداقة أهم منجزات العقل ، ويذهب اليها الانسان من اجل الخلاص . لكنه لم يحدد نوع الخلاص الذي صار حلماً .

اعتقد بأن توصل فوزي لمعرفة العدم والاغتراب ، هي من ممنوحات لوكر بتيوس الفلسفية ، والذي أكد على أن الذرة أبدية ، وخالية من خصائص الادراك ، ليس لها لون ولا حرارة فيها ، لا صوت ، ولا رطوبة ، أو رائحة ، وليس لها مشاعر ، ولا عاطفة ، لانها لو كانت تمتلك تلك المشاعر والخصائص ــ اذن ــ لكانت عرضة ــ للموت والفناء / فوزي كريم / القلب المفكر ، القصيدة تغني ولكنها تفكر ايضا / دار المتوسط / ص94//

وأكدت الفلسفة بوضوح على المصير الذي يواجهه الشاعر ويخشى ترقب المجهول ، لأنه ــ الشاعر ــــ يحيا ويدرك بأنه يموت ، وهو يمتع العين والقلب والفكر ويحيا الحياة بكل صورها ، ولا يفعل كل ذلك ، الا وهو ينسج بيده خيوط فنائه وموته . ذلك لان كل لحظة يمر بها هي لحظة نحو الفناء . والانسان يعرف انه لا محالة " ميت " لكنه لا يحاول ابدأ ام يواجه هذه الحقيقة . كما قالت د. امل مبروك .

معروف بأن فوزي كريم الصامت ، والمتوجس ، والقلق ، وهادئ الكلام ، وكأنه يخاف الصوت وما يسمع من كلام هذا ما تشكل لدّى وانا التقية في الرياض ضمن مهرجان الجنادرية ليس هذا فقط ، بل عزلته وخشيته من الاخر وهذا ما تبدّى لي في مهرجان المدى في اربيل عام 19/ 2007 وعرفت من اصدقاء بأن الشاعر تجوهرت لديه تلك الخصائص وبعدما قرأت ديوانه " ما الشعر الا زلة اللسان " دار المتوسط 2018//

اول نصوصه في هذا الديوان هي " المعنى الكامن "

اوهمت الذات

بالمعنى المستتر الكامن

لكنك حين نظرت الى المرآة

ابصرت الوجه بغير سمات

كشف الشاعر بوضوح وصراحة عن غياب ما يريد ومنذ تاريخ قديم ، لان ما ذكره الشاعر في هذا النص لا يعني القبول بالتاريخ ، الذي يذهب اليه فوزي ، لا يعني قبولاً مطلقاً به ويروم الزوغان منه ، لكنه لا يعلن البراءة الكاملة عن مروياته ، لان المخيال يمتلك وسائلة لإعادة انتاجه شعراً.

توصل الشاعر اوكنافيوباث : الى ان التوفيق بين التاريخ والشعر ضروري ، ولكن لصالح الشعر لا للتاريخ . فالشاعر يحاول دائماً التملص من طغيان التاريخ حتى وهو في عمق ارتباطه بمجتمعه الذي يعيش فيه / فوزي كريم / شاعر المتاهة / وشاعر الراية / الشعر وجذور الكراهية / دار المتوسط / ص28//

الشخص الحاضر في مقطع النص من قصيدة " المعنى الكامن " تلاعب بالانا ، هو الذي زاول غشاً عليها وتكتم على المخفي فيها ، لكنه في اللحظة التي حدق الانا في المرآة ــ الاخر الغائب / لمح وجهاً فاقداً لسماته ، بمعنى تشوه الانا وبروز العيب الواضح ولم يستطع التستر مع التشوهات . وما يعنيه فوزي تفكك الهوية الخاصة بالكامن . لان الوجه بملامحه خسر سماته . هذا تعبير عن صراع ثقافي بين الانا / والاخر وحلم الانا بالحفاظ على خصائصه المميزة له ومميزاته المعلومة . وهذا ما اكد عليه المقطع الثاني من النص :

اركب ُ بحراً قاطرة ، خذ طائرة ، خذ مركبة الفضاء .

واختر للنفس بلاداً دون حدود خطت فوق الماء

حلق كالنسر على القمم ،

واقم في رحم الارض جنيناً للبركان

بين الحمم

ستعود لذاتك ثانية وبألف قناع

يخفي أثراً من وجه ضاع

في البحث عن المعنى الكامن

الامر واضح وقوي ، وفيه قسوة ، وضغط نحو الاختيار للخلاص ، هروباً وسعياً نحو فضاء مفترض لا حدود له ، انه أكذوبة بوهم بها الشعر ، وجعلها مرسومة فوق سطح الماء وضاعت تفاصيل الخارطة . لكن الشاعر ينحرف ويلوذ لمنح الذات ، لمن نادى عليه الشاعر ويلح عليه اتخاذ صفة النسر والصعود على قمم الجبال ، وان لم يشأ له ذلك ليحضر هوة في الارض ، ويختارها كهفاً او رحماً ويتحول كل شيء فيه الى ناسف مدمر .

الملفت للانتباه التحول الثقافي في تجربة فوزي كريم ، بعد مرضه في السنوات الاخيرة وهذا ما تبدّى في عدد من قصائده وكتاباته النقدية واتضح لي بأن دراسة فوزي المهمة عن السياب في كتابه المثير للجدل " ثياب الامبراطور / الشعر ومرايا الحداثة الخادعة " وتفوقه المعرفي في ملاحقة ظاهرة الموت في شعر السياب . والتي لم يجدها خاصة به ، بل هي امتداد طبيعي لتجربة الشعر العربي الحديث والقديم . لان الموت المفردة التي يعيشها الانسان في الفترة الحرجة من حياته ، وخصوصاً تلك التي تمثل شيخوخته واضطرابها بأمراض خطيرة . ولذلك وظفتها الشعرية العربية ضمن مجال الغنائية العربية كما قال فوزي ، بوصفها حقلاً خيالياً خصباً ومتمتعه بقدرتها الهائلة على الاشباع الواهم من اكثر الحقائق حضوراً .

شخص فوزي كريم معايشة السياب للموت الذي تكرس لفظة حية في تجربته الشعرية بوصفها وقاية وتميمة لفترة طويلة من الزمن الى ان أدخل عنوة وبيده عزرائيل ، فتخلى عن الكلمة وبدأ " الفعل " فلم تعد كلمة الموت ترد في شعره على الهيئة التي كانت ترد في السابق / فوزي كريم / ثياب الامبراطور / دار المتوسط / ص147//

ويبدو بأن فوزي كريم تشرب بالموت الذي عرفه السياب وتعايش معه . لكن فوزي تجاور معه بوصفه مفردة فقط ، بينما السياب عرفه فعلاً . وكتب عنه متمثلاً حضوره في الميثولوجيا العراقية ، وهيمنته في العالم السفلي .

انغمار فوزي في فحص الموت السيابي ، جعله قريباً من تنوعاته الدلالية ومكوناته العديدة . لذا من يقرأ دراسة فوزي عن السياب سيتوصل الى تعرف كلي لعلاقة السياب بالموت موظفاً ــ فوزي ــ هذه المفردة التي تدنو من كونها كلمة وتحولها الى فعل متحقق ، لان شعر السياب وعزلته والاحساس بالوحشة ، قدمته اكثر تعايشاً . وما اريد التوصل اليه هو تعمق ثقافة فوزي كريم بالموت نفسياً وعضوياً واسطورياً وفشلاً بالمجال الاجتماعي والانهيار السياسي ، كلها تفضي الى نوع من الخيبة والاحباط ، حاول السياب مواجهة كل ذلك من خلال الاسطورة كما في قصيدته العظيمة " انشودة المطر " التي وظف فيها الميثولوجيا لترميم موقفه الانطولوجي وعلاقته التي خسرها ولم يفلح مع الانثى لإعادة التواصل معها ، ولاذ بالأسطورة موظفاً حضوره الحقيقي بمماثل رمزي وكأنه الاله دوموزي ، والارض ، هي الانثى المجازية ، لكنه لم ينجح مادياً وانتهى السياب وقد ترك وراء خسارة كبيرة جداً .

لكني وانا أقرأ ديوان فوزي كريم " ما الشعر الا زلة اللسان " واجهت منذ قصيدته الاولى في هذا الديوان " المعنى الكامن " وقد المح لنا بالشعر الغامض والمتصاعد شيئاً فشيئاً حول التكشف ، لكن النص كله اختار سيادة غموض المعنى ، لا بل التستتر عليه لا بل التكتم ، بحيث لم تعد لحياة الشاعر من معنى يستحق العيش بسببه .

لذا بالإمكان الاشارة لموقف السياب الوجودي وتكرس عتبة انطولوجية قوية جداً مع الموت وتعايش معه بالمطلق وقادة الى الميتافيزيقيا ، لان الموت لديه يمثل خلاصاً من الازمات الوجودية التي لاحقته بقوة وهذا ما اشار له عدد من الاصدقاء الذين عرفوه عن قرب ، مثل د. احسان عباس ليس سهلاً على شاعر مثل السياب يهاجر اشبه بالمطرود من جماعة الاصدقاء والذين فتحوا له باب العالم السفلي . بمعنى جماعة الشعراء الذين تجاهلوا السياب واخذوه للحظة الانهيار هي التي جعلته يتأمل مصيره بوعي ومعرفة ولم يكن غريباً عليه اللجوء للاسطورة والاستعانة بها " انشودة المطر " . حاول التعويض لكل خسارته وانكساراته لما افضت به اليه الاسطورة ، حيث معاودة الحياة لنسقها الخصوبي وتمركز رمز الماء في توظيفه لعدد من الانهار في تجربته الشعرية ، ومقاومة الجفاف الروحي والتصحر الثقافي .

اخيراً نجح السياب من خلال دراسة فوزي كريم المهمة بالتوصل الى القمم الداخلية التي تمثلها الشعر والابتعاد عن الوقائع التاريخية التي تدعم تخليق الشعر ، بقدر من تتركه حطاماً . ان المعنى الداخلي والشعرية السيابية اعادت الاعتبار للموقف الذي انتصر للشعر المقاوم للموت ، لان الشعر سجل بدقة ومهارة خلود شاعر قبل السياب وشطب على عدد اخر ، على الرغم من الكثير من ظلت ماثلة بعد سواد المحو . لم يذهب للموت مباشرة ، بل تحايل على المجاز وما اطلق عليه زلة اللسان ، او وظف طاقة الرمز للتعبير عن الموت ولم يكن وقحاً في تحديه مثل السياب ، كتب كثيراً عن الموت المجازي او تمظهرات الاماكن المتعبة بسبب شيخوختها والاحساس بالعطل الروحي وكأن فوزي كريم وظف موقف فرويد الذي قال :

تفقد الاشياء والاحداث معانيها ، تنطفئ الفوازع والرغبات بمقدم الشيخوخة وتضمحل القدرات ويصير كل شيء باهتاً فما الذي يبقى اذن للموت كي تحطمه ؟ .