بغداد حكاية مدينة

Tuesday 16th of November 2021 11:27:07 PM ,
العدد : 5066
الصفحة : آراء وأفكار ,

 حسن مدن

حضر في ذهني مونولوج ورد في نص قديم جداً لغادة السمّان، لم أعد أذكر اسمه ولا تاريخه، ولا حتى السياق الذي جاء فيه، لكن ما أذكره أن الكاتبة نفسها، أو بطلة متخيلة في النص، كانت في زيارة لمدينة أوروبية يقطعها نهر، لعلّه الدانوب. وعلى ما في تلك المدينة من سحر وجاذبية، فإن المرأة قالت في مونولوجها ذاك ما معناه: ما عس أن تحمله لي هذه المدينة من جديد أنا الآتية من الشرق العربي حيث أعرق مدن العالم وأجملها، وكانت عواصم لحضارات مزدهرة.

ولعلها سمت مدينة دمشق بالذات من بين تلك المدن، وما يقال عن دمشق يصحّ على القاهرة وبغداد وغيرهما من عواصمنا ومدننا العربية.

وما أعاد نص غادة السمّان إلى ذهني خبر قرأته حول أنه في هذا اليوم بالذات، الخامس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام، يحتفل العراق بيوم تأسيس عاصمته بغداد قبل نحو 1259 عاماً على يد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، في عام 762 للميلاد (145 هجرية). ومن منّا بوسعه، حين يقرأ خبراً مثل هذا، الفرار من المقارنة التي سيجد نفسه أسيراً لها بين ما تمثله بغداد وما كانت عليه في مراحل مجدها، وما هي عليه اليوم، وبغداد في ذلك ليست استثناء بين عواصمنا ومدننا العربية العريقة.

الخبر ورد ضمن تقرير مطوّل على موقع «بي بي سي»، استعرض تاريخ بغداد، وتاريخ العراق عامة، منذ أن اختار أبو جعفر المنصور الموقع الواقع بين الكاظمية والكرخ الحالية ليبني عليها عاصمة دولته، أو فلنقل إمبراطوريته، وأطلق عليها اسم «مدينة السلام»، لكن تاريخ العراق لم يبدأ ببناء بغداد، ولا بتاريخ دخول العرب إليه في العام الميلادي 637، فإشعاع حضارات ما بين النهرين معروف لدى القاصي والداني، وعلى تلك الأرض تعاقبت حضارات أكسبت هذا البلد ما هو عليه من تميّز.

لا طاقة لمقال قصير مثل هذا أن يحيط بما تمثله بغداد، لا في التاريخ الثقافي والحضاري العربي وحده، وإنما العالمي. من بوسعه، على سبيل المثال فقط، نسيان الدور الذي أدّته دار الحكمة في ترجمة التراث الفلسفي الإغريقي إلى اللغة العربية، لا ليغني ثقافتنا ويغتني بها فحسب، وإنما ليصل إلى أوروبا عبر لغتنا؟ ومن بوسعه نسيان العمل الخالد الذي أبهر العالم كله «ألف ليلة وليلة» الذي كانت بغداد بيئته؟ فصانعو الحكايات والسرد فيه هم أنفسهم أهل بغداد بمقاماتهم المختلفة، وفيه تحضر ضواحيها وأزقتها وحماماتها وأسواقها، هي المدينة التي قيل عنها: «بغداد ليس لها ما يوازيها».