النسويّة العموميّة وفلسفة الصَّفح

Wednesday 17th of November 2021 11:11:11 PM ,
العدد : 5067
الصفحة : آراء وأفكار ,

 د. نادية هناوي

لا اختلاف حول عقلانية "الصفح" حين يكون تبنيه إيجابياً على قصدية تحقيق أغراض وتبني نوايا تصب في الصالح العام.. بيد أن أمر هذه الايجابية ليس سهلا من ناحية الإفصاح عن حقيقة النوايا الكامنة وراء ايجابية الصفح هذه أو تحديد مقبولية الصفح حين يشطب على الانتهاكات والتجاوزات والزلات والشطحات ويتغاضى عن الرذائل والموبقات. وقد يحتاج مثل هذا التحديد للمقبولية زمنا فيه يغدو الصفح ممكناً وأيضا قابلاً للجدل أخذا وردا.

ولقد عدت حنة ارندت "الصفح" لفظا ملازما للعقاب لكنه ليس كذلك دائما فقد يبدأ قبل النطق بالعقاب لكنه أكيد رديف الخطأ. أما جاك دريدا فرأى "الصفح" ليس هو النسيان ولا هو المستحيل. وتساءل مناقشاً أطروحة الفيلسوف الفرنسي فلاديمير جانكليفتش عما إذا كان الصفح يبتدئ حيث يبدو أنه ينتهي؟ وهل للصفح مفهوم واحد؟ ممثلا بمقولة الشاعر ايلوار كان قد ذكرها جانكليفتش وهي: "(لا يوجد خلاص على الأرض طالما أننا نستطيع الصفح عن الجلادين") ولا يخفى ما في هذه المقولة من تطرف في النظر للصفح بسلبية..

ومن أمثلة الصفح بايجابية ما يشتمل عليه مفهوم (النسوية العمومية) من رفض لفكرة تسييس الفكر النسوي ومعارضة تحجيم نطاق مهامها في مسائل ضيقة مطلبية، يعتقد كثيرون للأسف أن النسوية معنية بها ومتخصصة فيها وليس لها غيرها، بل لا قدرة لها على الخوض في مسائل خارج هذا التضييق المتعسف والجائر. وليس مع مثل هذا الحال سوى إبعاد سمة التفكر عن النسوية وترهين علاقتها بصعيد واحد من صعد الحياة لتكون موسومة بالتقوقع والانعزال وربما التطرف والنبذ أو التعصب أو التشويه وغيرها من الصفات السلبية التي جرّدت المرأة من أحقية الحرية ورهنتها بالضيق الفكري بدل أن تعمل على دعم صورتها وتؤكيد جدوى فاعليتها.

والمتحصل من وراء التحيز لمثل هذه التخصصية في فهم معنى النسوية الوصول الى حالة الصفح السلبي بجمود الكينونة مما يسميه غادامير (التحيز إلى التقليد) الذي يقود الى جعل المعرفة عبارة عن سلطة انضباطية كما يرى فوكو؛ مما يعني تلاشي الذات الانثوية ضمن حقل قوة ذكورية أو سلطة خطاب أعلى ونرجسي. وعندها يكون الصفح عن النسوية قد تم بنزعة مركزية وليس برغبة ذاتية تريد للمرأة أن تكون مستقلة عن التبعية وتمتلك قرارها بعيدا عن الوصاية والهيمنة وتكون في الآن نفسه متحصنة من النرجسية.

ومن بين التسميات التي راهنت على تضييق نطاق النسوية تسميتها بالإسلامية، فهل هذه التسمية منطقية لكي نتعامل معها بايجابية الصفح؟ وما المخرج الذي على هذه النسوية إيجاده للتخلص من الاتهامات التي وجهت إليها والمطبات التي انخرطت فيها متعدية على المواضعات، وواضعة نفسها في خط المناهضة المبدئية والتصدي الشاطح عن قصد أو من غير قصد لثوابت لا تقبل الانتهاك والتعدي؟

عموما يُعد (قاسم أمين) مثالا ناصعا للصفح بايجابية وسطية وفكرية كان قد سبق بها عصره من خلال دعواته النسوية التنويرية نهاية القرن التاسع عشر والتي لا تتضاد مع الشريعة؛ بل تريد للمرأة العربية حقوقاً ولا تنسى أنّ لها واجبات. وبهذا يبدو فكره أقرب الى العمومية وهو يناصر المرأة التي تعي حقيقة ذاتها الجديدة التي هي ثمرة من ثمرات التمدن الحديث، وأن هذا التمدن ــــــ الذي كان ظهوره أولا في الغرب على أثر الاكتشافات العلمية التي خلَّصت العقل الإنساني من سلطة الأوهام والظنون والخرافات ــــــ كان قد حقق للمرأة الغربية في القرن التاسع عشر بعض حقوقها بينما كانت المرأة العربية قد نالت حقوقها عبر اثني عشر قرنا.

ورفض قاسم أمين دعوى بعض الفلاسفة في تعريف معنى الحرية الإنسانية وهم يرون في المرأة دونية حين يقسمون البشر على قسمين قسم ميّزوه بالحرية والقسم الآخر قضوا عليه بالرق. وعرِّف الحرية بأنها ("استقلال الإنسان في فكره وعمله متى كان واقفا عند حدود الشرائع محافظا على الآداب.. هذه الحرية على ما بها من سعة هي التي يجب أن تكون أساسا لتربية نسائنا)" ولا يخفى ما في هذا الفهم من عمومية نسوية.

وتعبر الآراء التي تبناها المفكر (محمد عمارة) عن إيجابية الصفح أيضا وهو يناقش مسائل النسوية والنسوية الإسلامية. وتنم بعض آرائه عن عمومية نسوية متأتية من اعتدالية النظرة التي ترى المرأة لا تختلف عن الرجل في مسائل مثل الفتنة والتحزب؛ بل إن التضليل من سمات المجتمعات الإسلامية التي هي في غالبيتها العظمى متراجعة حضاريا إلى حد كبير وهي التي كانت الأكثر احتراما للمرأة وتكريما لها من نظائرها في الحضارات الأخرى.

ولم يبدأ المفكر عمارة بتوضيح نواياه من وراء الصفح ولا عُني برصد حاضر حياتنا وما تعانيه مجتمعاتنا من تراجع وتطرف، بل راح يتتبع دور المرأة في المجتمع الاسلامي وكيف كانت في صدر الإسلام فاعلة. وهو أمر بالطبع لا يحتاج إلى أي تنظير أو تفلسف، فمشاركات النساء مع الرجال في أداء مناسك الحج والعمرة كانت مرعية منذ فجر الإسلام حتى اليوم كما أن للإسلام سُنة في مشاركات المرأة للرجال بالأنشطة والعبادات التي تؤدى بالمساجد. وكانت المرأة تزور المعتكِف بالمسجد من أهلها وتحضر مجالس العلم وتلبي الدعوة للاجتماعات العامة وتحضر الاحتفالات التي تقام بالمسجد ومجالس القضاء وكان يقال ("لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد). أما المحصلة التي انتهى إليها محمد عمارة فهي أن في هذه الشواهد كلها نهضة نسوية شهدها صدر الإسلام، تحققت من دون حاجة إلى جهاد نسوي وحركة نسوية، ومما قاله: في هذا الصدد ("لقد فُتنت المرأة في دينها كما فُتن الرجل وأُخرجت المرأة من ديارها كما اُخرج الرجل ولذلك إذن الله للجميع بالقتال وكتبه على الجميع مع تميز إسهامات كل من النوعين في هذا الميدان من ميادين العمل العام).

ورفض د. عمارة القواعد المغرضة التي صيغت إسلاميا فيما بعد وهي تبتغي تأكيد تكامل سلطة الرجل، وكأن التنوع بين الرجال والنساء سُبة وليس حسنة. ومن ذلك مثلا قاعدة سد الذرائع والجهاد الإعلامي للمرأة ونقص المرأة عقلا ودينا ومنع ولاية المرأة وغير ذلك كثير.

وجدير بالذكر أن د.عمارة متأثر في كل ذلك بطروحات قاسم أمين التحررية في كتابه(المرأة الجديدة) مبينا أن ظهور كتاب (تحرير المرأة) عام 1894 كان بداية الدعوة لنصرة المرأة مع أن احمد فارس الشدياق والأتراك والطهطاوي كانوا قد سبقوه لكن أمينا تميز عليهم في انه ناقش مسألة المرأة مناقشة علمية. وهذا ما أعطاه إيجابية الصفح بالوسطية التي بها نظر إلى العلاقة الروحية بين المرأة والإسلام وكذلك الاعتدال في النظر إلى النساء بعمومية، فلم يذهب مذاهب متطرفة تتقوقع أو تتخصص في نسوية محددة تحديدا مجحفا من قبيل تحديدها بأنها إسلامية.