كلامٌ عاديٌّ جداً: كـلام شـارع

Tuesday 23rd of November 2021 10:10:12 PM ,
العدد : 5071
الصفحة : الأعمدة ,

 حيدر المحسن

- 2 -

مما يستعمله العامّة في كلامهم وصف الكاتب عبد الرحمن مجيد الرّبيعي لإحدى النساء بأنها "لا أجمل منها"، وهي "متناسقة مثل عارضة أزياء"، و"مموسقة؟"، و"نادرة"، ويقول عن صوتها بأنه "باذخ"، و"متماهل رخيّ"، ولا يفهم القارئ ما المقصود بهاتين الصّفتين. "نهار عراقيّ" هو عنوان قصة الربيعي، حيث يلتقي مصوّر فوتوغرافيّ كان يزور صحن الأخيضر الأثريّ بإحدى المعجبات به:

"ووجدتني أسألها:

- وأنت؟ وضحكت، كركرت حنجرتها النّديّة وقالت:

- إنسانة.

– أعرف هذا رغم أنني ظننتك لأول مرة جنيّة..."

ويبدو أنّ التّعبير أعجب الشاعر سامي مهدي فاختاره عنوانا لديوانه: "حنجرة طريّة"، وهو العضو الذي لا نراه سوى في كتب التّشريح والعلوم، مثل المعدة والكِلْية والمَعيّ، بينما تنصّ قاعدة الوصف على أن الثوب شفّ ووصفَ الجسد، أي أنه يشمل ما تراه العين، أما العتمة في الداخل فلها الكلام الذي يختصّ بوصفها، وليس منه ما تقوله العامة من أن فلانا ممزّق الأمعاء، ومحروق القلب، ومطعون الكِلية... ويبدو أنّ الشّاعر والقاصّ تأثّرا بما ينعت به نجوم الطّرب بأن لديهم "حنجرة ذهبيّة"، وهذا من ابتكار صحافة المنوّعات، وهو من سقطات صاحبة الجلالة.

يكتشف المصوّر في قصة الربيعي أن الفتاة تطمح أن تكون رسّامة، وهي ابنة دبلوماسيّ ثريّ، وتجمع الاثنان علاقة حبّ سريعة تنتهي بالزواج، رغم اعتراض أهل الفتاة. عندما يكون الوصف من كلام الشارع، يكون السرد كذلك، وتتبع العقدة والحلّ في القصة عندها موضوعا قديما تمّ استهلاكه، إلى أن صار من سقط المتاع.

هنالك اعتقاد ساذَج أنّ القصّة تكون عظيمة لمجرّد أن تتناول قضية عظيمة، ويغيب عن أصحاب هذا الرّأي أن لا أحد يستطيع أن يفرز الأمور الجليلة عن غيرها، ومهمّة الأديب الرّئيسيّة هي إثبات هذه الحقيقة للعامّة، ويتمّ له ذلك بواسطة سحر اللّغة، فإذا جاء في كلامه شيء ممّا يستعمله العوامّ في أحاديثهم، فإن السّحر يتضاءل إلى درجة خطيرة، بل قل إنّه يتلاشى، ويصبح ما يقوم به الشّاعر والنّاثر عبثا قارا.

في ليلة شديدة البرد كتب شابّ مريض بالسلّ اسمه "نوفاليس" هذه الخاطرة: "كلّ ما هو مرئيّ يقبع فوق خلفيّة غير مرئيّة، وما هو مفهوم، فوق خلفيّة غير مفهومة، وما هو ملموس، فوق خلفيّة غير ملموسة". تخضع جميع الفنون إلى هذه المعادلة الغامضة، وفيما يخصّ الأدب فإن الإحساس بالمفردة يُعدّ الشرط الأساسي للإبداع، ويُدرك هذا عن طريق الموهبة والثقافة الواسعة والمكابدة، وغير ذلك.

"الرّاهبة كانديلاس" عنوان قصّة للإسباني الذي مرّ ذكره: إجناثيو الديكوا. تحكي امرأةٌ قصتها إلى الرّاهبةَ: حين أتيتُ إلى مدريد عرفتُ رجلا... وتبدأ المرأة بالبكاء، وتحاول الرّاهبة مواساتها بكلمات عذبة، إيقاعها مثل الصّلوات:

- القلب يا ابنتي يبحث مثل الطّائر، مسكين هذا القلب! يبحث عن عشّ صغير. يا ابنتي، هنالك حيث يسود الصّمت تعثرين على ما يبحث عنه القلب. يا ابنتي الصّغيرة، هنا يخدعونك، يخدعوننا جميعا. نحن مثل الطّيور في الشّتاء، مثل طيور حزينة، تبحث، وتبحث، وتبحث. إنّ وحدتنا قاسية جدّا، لكنّ الأصوات الصّديقة تقودنا دون أن تدعنا نيأس.

كان صوت الراهبة مليئا بأمومة غامضة. وهي تتحدّث، تكاد لا تحرّك شفتيها، وكلماتها تملأ الغرفة كلّها.

– ماذا نفعل؟ تسأل المرأة، وتجيبها الراهبة، وقد أغمضت عينيها، كأنّها تنام أو تتأمّل:

- الأصوات الصّديقة تناديك حين يحين الوقت، عليك أن تثقي، سنذهب في سكون إلى الطّرق المليئة بالموسيقى والأغاني...

أمسكت المرأة بيد مكلّمتها، وأغمضت عينيها. بقيتا صامتتين، ثم جذبت الراهبة يدها:

- احتفظي بحرارتي كما أحتفظ بحرارتك، ولا يمكن أن نضيع أبدا.

القصة القصيرة هبة الحياة لنا، ويحاول القاصّ في أحسن حالاته أن يتشبّه بالرّاهبة كانديلاس، ويكون صوتا صديقا يخفّف آلام المرأة التي غدر بها رجُلُها.

الحياة تغدر بنا جميعا، ولكنْ ينقذنا الأدب.