مارغريت ديراس: التحطيم بين الرواية والفيلم

Wednesday 22nd of December 2021 11:07:04 PM ,
العدد : 5092 (نسخة الكترونية)
الصفحة : سينما ,

نجاح الجبيلي

أخرجت الكاتبة الروائية مارغريت ديراس (1914-1996) العشرات من الأفلام وبعضها كان معداً عن رواياتها بضمنها رواية «التحطيم» Détruire dit-elle الصادرة عام 1969.

في المقابلة التالية يناقش جاك ريفيت وجان ناربوري والسيدة ديراس محتوى كتاب “التحطيم” والاقتباس السينمائي للرواية، وقد نشرت هذه المقابلة في مجلة “دفاتر السينما” في نوفمبر- تشرين الثاني عام 1969:

ريفيت: يبدو أنك تريدين أكثر فأكثر أن تعطي أشكالاً متتالية لكل من “الأشياء” التي تكتبين- دعينا لا نستعمل كلمة “القصص”. مثلاً، رواية”الحديقة” التي لها العديد من الصيغ أو رواية”الموسيقى” التي لها عدة أشكال، أو رواية”العاشق الإنكليزي”. هذا يتفق مع...

ديراس: الرغبة بحيث أنه يتوجب عليّ دائماً أن أمزق ما أصبح محطماً. إن “التحطيم» هو كتاب متشظّ ٍ من منظور روائي. لا اعتقد أن هناك جملاً فيه. وثمة تعليمات تذكّر بالسيناريوهات: «شروق»، «اليوم السابع»، «حرارة»، «نور كثيف»، «غسق»..الخ- هذه تعليمات لنص سينمائي. هل تفهم ما أعني؟ أحب المادة التي يجب أن تُقرأ وتتحرر قدر الإمكان من الأسلوب. لا أستطيع أن أقرأ الروايات بعد. بسبب الجُمل...

ريفيت: حين كتبتِ هذه التعليمات، هل كانت الفكرة تحلق في الأفق؟ أم كانت لأنك ببساطة لا تستطيعين أن تكتبي إلا بهذا الشكل؟

ديراس: لم تكن لديّ فكرة عن فيلم بل كانت لديّ فكرة عن كتاب- كيف أوضح المسألة؟- عن كتاب يمكن أن يُقرأ أو يُمثل مسرحياً أو سينمائياً أو، أضيف دائماً، يمكن أن يُرمى به ببساطة.

ريفيت: على أية حال كان المسرح في ذهنك إلى حدٍّ ما، حتى الصفحتين الأخيرتين من الكتاب...

ديراس: نعم، نعم.أراد كلود ريغي أن يمثله، ثم صنعتُ الفيلم أولاً، لم أغالب شعوري.. اعتقد أنه من الضروري خلق أشياء مختصرة للوقت وتقرأ بسرعة وتعطي القارئ دوراً مهماً.هناك عشرة طرق لقراءة «التحطيم» ذلك ما أردت.وعشرة طرق لرؤيتها أيضاً.لكن تعلم أنه كتاب بالكاد أعرف عنه.أعرف الفيلم أكثر من الكتاب.كتبت الكتاب بصورة سريعة جداً.كان هناك سيناريو جيد عنوانه «كرسي الاسترخاء» حاولنا أن نوظفه كفيلم لكنه ظهر فيه نوع من السايكولوجيا من النوع البحثي،لكنه مع ذلك سايكولوجي. ولم تكن شخصية شتاين موجودة فيه.

ريفيت: هل ظهر السيناريو قبل الكتاب؟

نعم. سيناريو «كرسي الاسترخاء».كانت ثمة ثلاث شخصيات. مع ذلك، كانت كما يبدو قصة كلاسيكية. حين اكتشفت شخصية شتاين لم يعد السيناريو جيداً مطلقاً، وأهملنا المشروع كله في نفس ذلك اليوم.

جان ناربوني: لقد أدهشني التعارض المثير للاهتمام بين الفيلم والكتاب. كانت التعليمات في الكتاب مختصرة جداً، لكن عددا محددا من الافعال والإيماءات في الكتاب قد تمّ إهمالها في الفيلم: في النهاية، إنه نوع من العملية الآلية التي هي بالضبط معاكسة للعملية التي يقتبس فيها صانع فيلم رديء كتاباً ويبقي فيه الأحداث والحقائق والتصرفات الجسدية ويترك كل شيء ربما يبدو، على العكس، ينتمي إلى الكتابة المنطوقة بصورة صحيحة.وهنا يتولد لدى المرء الانطباع بأنك انتزعتِ كل شيء سيبدو نابعاً مباشرة من «السينما» وأبقيتِ ما يبدو منتمياً إلى عالم الأدب.

ديراس: هذا صحيح؛ لديّ شعور بأنّ المسألة كانت بهذا الشكل. هل تفكر بأي إيماءة خاصة؟

ناربوني: أفكر بالعديد منها: مثلاً اللحظة التي يضرب فيها شتاين ساقي أليسا. في الفيلم الجزء الوحيد الذي تخلف من هذه القطعة هو المحادثة.

ديراس: حدث الأمر خلال البروفات إذ أدركت أنه من المستحيل لأن الممثل مايكل لونسدال ضخم جداً. كان مهماً جداً أن يجلس هناك عند قدمي اليسا قريباً من ساقيها. كان عليّ أن أبعده من الاثنين الآخرين لكي لا يشعرون بالإرباك. لذا كانت الاسباب عملية حقاً أني حذفت هذه الإيماءة. عملت على هذه الإيماءة- حسب الممكن أي الاحتفاظ بها- لمدة طويلة. لم أكن قادرة على عمل ذلك وأنا آسفة.

ريفيت: لكن تلك كانت بروفات حدثت سابقاً...

ديراس: حدثت في بيتي. لمدة شهر ونصف.

ريفيت:هل تعملين بروفات قبل أن تصوري.

ديراس: نعم.

ريفيت: لكن أليس من الصحيح أن شتاين في تلك اللحظة الحاسمة كان في نفس المستوى مع الشخصيات الأخرى؟ أو أن تلك الإيماءة فقط كانت مستحيلة؟

ديراس: نعم. من الصعب جداً تفسير استحالة اللقطة. لم تكن ممكنة؛ من الواضح أنها لم تكن ممكنة. وإلا ستكون ضرورية له إن لم نقل لأي شيء. كان اختياراً ما بين الإيماءة والحوار...

حتى لو ظهرت بداية «التحطيم «كنوع من العمل الفعال، فإن ذلك ربما أيضاً يجري رميه أو يصوّر سينمائياً، أو يمثل مسرحياً أو يقرأ، عمل فعال تم جعله حقيقياً عن طريق الفائدة التي من أجلها وضع، إذا جاز التعبير....

ديراس: نعم. الفائدة التي من أجلها وضعه القارئ أو المشاهد. هذا هو المنظور الوحيد الذي أعمل ضمنه.

ناربوني: إذن عند هذه النقطة يثار سؤال. تتكون «التحطيم» هيكلياً من الناس الذين يراقب أحدهم الآخر عند مستويات مختلفة. أحد المحاور الرئيسة مثلاً يجري كالتالي: شخص ما يراقب ملعب التنس ويراقبه شخص آخر، الذي بدوره يراقبه طرف ثالث، والسارد، أو مهما كان الذي يؤدي دور السارد، تقريباً يتناول هذه القصص ويرى ما تراه تلك الأعين المراقبة...

ديراس: أنت ترى سارداً...

ناربوني: كلا، كلا. لا يوجد سارد فعلاً...

ديراس: إنها الكاميرا.

ناربوني: ثمة نوع من «الانسلال» الدائم الذي يتجاوز سارداً- أو غياب السارد. ما أعني قوله إنه في الفيلم هناك دائماً عين مراقبة واحدة، هي ليست سوى الكاميرا، التي تشكل قوس هؤلاء الناس الذين أحدهم يراقب الآخر. أود أن أعرف إذن بأي شروط قدمت هذه الضرورة نفسها في أن تكون هناك عين مراقبة أخيرة تسيطر على البقية- أي الكاميرا- بالنسبة لبناء «التحطيم»؟

ديراس: هل هي موجودة في رأيك؟

ناربوني: هل هي موجودة كعين مراقبة؟

ديراس: نعم في الكتاب والفيلم.

ناربوني:كلا، لأن تعبير «العين المراقبة» ليس التعبير الصحيح- دعنا نقول إذن العامل المحدد الأخير، محكمة استئناف أخيرة.

ديراس: كأن شخصاً أراد أن يربط المسألة برمتها معاً؟

ناربوني:كلا، كلا الأمر لا يشبه شيئاً يربط المسألة برمتها معاً. ليست «تحديقة» بل شيئاً ساكناً، لكنها وظيفة مراقبة إذا جاز التعبير.

ديراس: نعم، لكن وظيفة المراقبة هذه يمكن أيضاً أن تسمى تقمص الشخصية. هل توافقني على ذلك؟ أنا أؤمن بالقانون المقدس الذي وضعه سارتر في مقالة يجيب فيها على مورياك منذ حوالي عشرين سنة مضت، والتي قال فيها بأن المرء يمكن أن يتقمص مع شخص واحد فقط. الوصول إلى الشخصيات الأخرى ضروري، لهذا السبب، أن تعمل هكذا من خلال الشخصية التي تتقمصها، يجب على المرء أن يدخل فيه لكي يصل إلى ب و ج.

ريفيت: نعم سارتر اتهم مورياك في تسخير نفسه للأب الرب والسيطرة على كل الشخصيات.

ديراس: صحيح. لكن هذا قانون طبق على المشهد منذ قرون حتى الآن. وعلى الروايات أيضاً. حاولت أن أخرق هذا القانون؛ لا أدري إن كنت نجحت. ليس هناك سلطة لإحدى الشخصيات على الأخرى في «التحطيم». ثمة انزلاق من شخصية إلى أخرى. لماذا؟ أعتقد بسبب كونهم متساوين.اعتقد بأنّ هؤلاء الشخصيات الثلاثة قابلون للتبادل تماماً. لذا أنا أتعامل من الأشياء بطريقة لا تكون فيها الكاميرا حاسمة بالنسبة للطريقة التي يتصرف بها أحدهم أو الكلمات التي ينطق بها آخر، هل فهمت؟ ما يقوله أحد الرجال يمكن أيضاً أن يقوله آخر.ما يقوله الآخر، يقوله الشخص الثالث أيضاً أليسا. الرجال مختلفون قليلاً عن أليسا، حقاً، بما أنها لا تتكلم عن الرجال بينما الرجال يتكلمون عنها. إنها لا تطلق أحكاماً. ولا تستمر بالتفكير في العموميات- انتظر دقيقة. أنا استغرقتُ ...

ناربوني: لقد أعطيتنا إجابة مثالية. أي أنك واجهتِ خطر أن الكامير ربما تصبح إلهاً مثلما يتصوره مورياك، إذا جاز التعبير...

ديراس: هذا إجحاف من القرن التاسع عشر ما زال يسيطر على صناعة الفيلم...

ناربوني: بالضبط.لهذا السبب أنتِ رفضت نوع النهاية التي تجعل الكاميرا دائماً تطوّق فضاءً أو تسجن شخصية بجعلها تتخذ دورين، بالطريقة نفسها التي تكون فيها الشخصيات تتبادل الأدوار.

ديراس: نعم تلك هي المسألة. على أية حال، ذلك ما حاولت أن أفعله.

ريفيت:هذا أمر واضح ومدهش منذ اللقطات الأولى: اللقطات التي شاهدتها في البداية تمثل مراقبة عين لشخصية ثم في النهاية، وضمن حركة اللقطة ذاتها، يجري التركيز من الخارج على هذه الشخصية ذاتها التي تمتلك عينين تجعل المشاهد يفكر بأنه كان يرى من خلالهما.

ديراس: في السيناريو أيضاً هناك العديد من التعليمات التي تشير إلى ما تقوله:»ذاك وذاك يبدوان وهما يراقبان شخصاً ما.»

ريفيت: كان ذلك في الكتاب أيضاً، لكن الإشارة إليه تتم من خلال وسائل أخرى- وسائل تخص الكتاب.

ديراس: لكن العلاقة بين الناس ربما لم تكن صحيحة في «التحطيم».

ريفيت: على أية حال فإنّه فيلم فيه المشاهد ملزم بتوجيه انتباهه ( حتى لو لم يكن ناقداً بميزات نموذجية لمهنته) إلى الطريقة التي تتصرف فيها الكاميرا نحو الشخصيات...

ديراس: حسناً، حاولت أن أكتب كتاب «التحطيم»... كيف أستطيع أن أوضعه بصورة متواضعة؟ لا أعرف. تواضع رئيس... لدي شعور بأني كتبته في حالة حماقة. وفي الظلام.

وحين صنعت الفيلم بدا لي الكتاب واضحاً خلال البروفات: خطوط قوته، مغزاه، ولاسيما على نطاق سياسي- لكني خلال التصوير كنت في الظلام أيضاً. وكان من الضروري لي أن أنغمر في الظلام لكي تكون للكاميرا الحساسية نفسها، كما للقلم حين أكتب. لا أدري إن كان ذلك قد حدث في الفيلم.

ناربوني:لكي نستمر بهذا الخط من الأسئلة، ثمة قطعة يكون فيها الفرق بين الكتاب والفيلم صارخاً: الحوار الطويل الأول- أو ربما نفس الحوار الأول ذاته- بين أليسا وأليزابيث، الذي يجري مقاطعته في الكتاب بالتحديق والكلمات والتعليق، لماكس ثور وشتاين، لكن في الفيلم يحدث العكس، إذ يستمر الحوار، على الرغم من أن المشاهد ربما يضمن بأن هذه التحديقة المستمرة للكاميرا تناظر وجهة نظر الرجال، أو أحد الرجلين، أو المرأتين.

ديراس: نعم، ذلك أثار مشكلة؛ بحيث نقول بأن الرجال لو يجري إظهارهم وهم يراقبون النساء، فإن أليسا ستعلم بأنها مراقبة. وسوف تكون أكثر حذراً مع أليزابيث أليون؛ معرفة إنها كانت مراقبة، وتتصرف كأنها لم تكن مراقبة. لم أستطع تحمل أقل تلميح إلى الحذر في دور أليسا.

ريفيت: إذن لم يكن الأمر لكي تتجنبي المونتاج المتوازي؟ السبب كما أتذكر بصورة صحيحة، المرأتان يجري مراقبتهما من مسافة في الكتاب: الرجال في الفندق، اعتقد....

ديراس: هما وراء المشربية... هناك أصوات خارج الشاشة خلال الحديث بين المرأتين. خلال الحديث هناك صوت:»في غرفة النوم أليسا ليس لها عمر محدد.» وصوت آخر:»إنه الفراغ الذي تبحث عنه.» وحينئذ أردت من المرأتين أن تكونا لوحدهما. إنه مشهد طويل. كلا. أليس طويلاً جداً؟ لقد قطعت قليلاً منه...

ناربوني: نعم، في النهاية، لو أنّ أحداً أخذ هذا المشهد كما في الكتاب (على الرغم من أنه يمكن أن يأخذ مشهداً آخر) فهناك هذا التداخل الذي يميل إلى الإيحاء بحلين في الفيلم: أما أن يضع الشخصيات في حقل الكاميرا ( وهذا لم ترغبي به لأن أليسا سوف تعلم آنذاك بأنها مراقبة) أو هناك إمكانية أخرى أن تنقحي هذا المشهد لكي تظهري ما الذي تهدف هذه القطعة أن تثيره، أي نوع من المونتاج المتوازي...

ديراس: وقد تمت الإشارة إليه أيضاً في الوصف الوارد في الكتاب.

ناربوني: وهو مؤثر تماماً في الكتاب، وفي رأيي سوف يدمر كلياً المشهد على الشاشة. اعتقد أنه في اللحظة التي تحركت فيها الكامير من أليسا وأليزابيث تتكلم إلى لقطة لشتاين وماكس يعلقان بينما هما يراقبان المشهد، تخضعنا بأنفسنا إلى منظور آخر، منظور مستقبلي للمشاهد. اعتقد أن مبدأ المشهد سوف يتناثر إلى قطع.

ديراس: ذلك صحيح؛ بالضبط. يمكن القول بأن هذا الامتداد الطويل للزمن...رتيب.مبتذل. قذر ورمادي... من الواضح أنه تم تهشيمه. تستطيعان أن تتصورا كيف من الصعب أن تكافح من أجل المحافظة على هذا المشهد الطويل. العديد من الناس قالوا لي:» أمر مستحيل؛ إنهم لا يتبادلون سوى الأحاديث التافهة.» لكن ذلك بالضبط هو الهدف...

ريفيت: هل أن هذه اللقطة هي التي أثارت هذا النوع من رد الفعل؟

ديراس: إنه المشهد الأطول.

ريفيت: من ناحيتي لا أستطيع أن أقول إن كان هو المشهد الأطول أم لا. إن كان أطول من مشهد لعب الورق مثلاً. لكن هل لأسباب عملية أو لأسباب مختلفة تماماً كان هناك عدد محدد من التغييرات للمشهد من الكتاب إلى الفيلم؟ مثلاً المشاهد التي تحدث في الكتاب في غرفة الطعام للفندق تحدث في الخارج بالنسبة للفيلم وبالعكس.

ديراس: ذلك لأننا لم يكن لدينا سوى غرفة واحدة للتصوير فيها، غرفة واحدة وغرفة صغيرة ملحقة.