د. حسين الهنداوي: الشعر والادب والفن مجالات ساحرة مكملة للفلسفة

Monday 3rd of January 2022 10:36:09 PM ,
العدد : 5098
الصفحة : عام ,

يرى ان الفيلسوف يكشف الأهمية الكونية للحرية والحلم ويجدد طاقة العالم في اعلائهما

حاوره: علاء المفرجي

الاديب والكاتب د. حسين الهنداوي، ولد في مدينة الهندية، ثم انتقل الى بغداد عام 1961 ليمارس مهن كثيرة: خياطا، ونجارا، وعامل مطبعة..

وأكمل دراسته الاولية في بغداد، ثم نال البكالوريوس بالفلسفة من جامعة بغداد..

غادر الى فرنسا بداية السبعينيات هاربا من بطش النظام السابق، واستقر في باريس نهاية السبعينيات. نال اولا دبلوم في اللغة الفرنسية عام 1977، ثم حصل على الماستر في الفلسفة الحديثة من جامعة بواتيه عام 1982، والدكتوراه بدرجة شرف في الفلسفة الحديثة من نفس الجامعة عام 1987.

عمل باحثا ومترجما في المركز الدولي للنشر في باريس، فرنسا، ومؤسس ومدرس «قسم اللغة العربية» في جامعة بواتيه، فرنسا، مبعوث منظمة العفو الدولية الى لبنان واليمن وهايتي بين 1991 و1995، ورئيسا لتحرير القسم العربي لوكالة يونايتدبرس العالمية للانباء(UPI) لتسع سنوات، رئيس للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق، بين 2004 و2007، مستشار دولي أقدم لبعثة الامم المتحدة في العراق لسبع سنوات بين2008 و2015، مستشار رئيس جمهورية العراق لأربع سنوات بين 2015 و2018. ومستشارا حاليا للسيد رئيس الوزراء لشؤون الانتخابات في العراق حاليا.

القسم الثاني

لديه اكثر من عشرة كتب منشورة منها: - “هيغل والاسلام” (بالفرنسية 1987).

“التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل” ، وهيغل والفلسفة الهيغلية، وعلى ضفاف الفلسفة، واخاديدو ، محمد مكية والعمران المعاصر، فلاسفة التنوير والاسلام” الهندية طويريج، بيتنا وبستان بابل، استبداد شرقي ام استبداد في الشرق؟، ولبنان 1991، رحلة في كوكب ممزق”، والفلسفة البابلية،

مئة سنة من الفلسفة في العراق، مظفر النواب، تأملات وذكريات. كما له تحت الطبع بالعربية: فاشية التخلف، البعث العربي نموذجا، ودولة اللادولة في الفكر الحديث، وفي نقد العقل الامريكي، والمفكر البابلي بيروسا..

 في عالم صاخب واستهلاكي كعالمنا ما الذي بإمكان الفيلسوف ان يعمله؟

- ان يكشف الأهمية الكونية للحرية والحلم ويجدد طاقة العالم في اعلائهما. فالفيلسوف راسم مستقبل وهذه مهمته الجوهرية في كل زمان ومكان وحالة. وهي مهمة واقعية وملموسة الحيثيات برغم ان كلامي قد يبدو هنا مجرداً او حتى غامضاً او عاطفياً واقصد بالمهمة الواقعية ان هناك بالفعل اشياء يمكن تحقيقها بفضل الفلسفة وبعضها يومي ومحلي. الا انها تصب جميعاً في تحقيق ولو جزئي ولو مرحلي للحلم الإنساني ومواجهة اخطار ما نسميه بالعالم الاستهلاكي بالفعل والمنتج للحيرة وحتى للقلق ربما.

 وكيف تنظر الفلسفة الى خطر فيروس كورونا؟

- هذا الخطر كان ينبغي ان يكون فرصة نوظفها لإعادة ترتيب الأولويات الاستراتيجية لكل مشكلة تواجهنا على ان تكون اعادة ناجحة أي نقدية بالضرورة. فكما ان هناك من وجدها فرصة لنقد النظام الرأسمالي المتوحش او العولمة او ما بعد الحداثة، او توبيخ الأرض بإسم سماء بريئة منا، او تمجيد الدكتاتورية على حساب الديمقراطية والحريات والحقوق او التهديد بكوارث اقتصادية او مناخية مجهولة، فأننا نعتقد بإمكان استخدام التكافل ضد كورونا لتمتين مشاعر الوحدة المجتمعية في مواجهة تفاقم اخطار هذا الوباء وأيضا في مواجهة اخطار الدكتاتورية والمحاصصة والفساد والتخلف والإرهاب والتشرذم.

 هل انت مع تدريس الفلسفة في المدارس المتوسطة والاعدادية؟

- تدريس الفلسفة ضرورة مطلقة لا سيما لمستقبلنا. مدى الاستعانة بالفلسفة تشير الى مدى سلامة العقل الجمعي. كل الأمم المتطلعة للتقدم تفعل ذلك دون الحاجة الى الجدل حوله. العراق متأخر جدا في هذا المجال مقارنة حتى مع دول الخليج العربي حيث تدرس الفلسفة ومشكلاتها ضمن المناهج الدراسية لطلبة الثانوية. فالفلسفة تعني اعلاء العقل وتحريره من القيود وهو على الأرجح ما تخشاه عقليات اجتماعية أو دينية مهيمنة تقليديا وتريد الاستمرار بفرض افكارها وقيمها الجاهزة عبر جعل العقل العام رهينًا لديها. فالتعريف بقضايا الفلسفة ولو بشكل مبسط لا مفر منه اذا اردنا خلق أجيال متفتحة ومبدعة في كافة المجالات بما فيها المجتمع والاقتصاد والفن والادب وحتى الفلسفة الدينية.

 يبدو لي ان الادب كان خيارك ولم تتخل عنه تماما.. والدليل ما كتبته في مجال الادب وعلاقاتك مع الكثير من الادباء؟

- قد يكون ذلك وليس في الامر اختيار. الشعر والادب والفن مجالات ساحرة هي أيضا ومكملة للفلسفة. انها نافذتي على العالم بكل معانيها. نحتاج الى ان نكون في حركة الحياة وليس على هامشها. معظم كبار الفلاسفة بما فيهم فلاسفتنا اهتموا بالادب والفن ومنحونا روائع فيهما ويكفي ان نذكر هنا اعمال الفارابي في مجال الموسيقى، وابن باجة في الرواية الفلسفية وابو العلاء المعري في «رسالة الغفران» والعشرات سواهم. وعلى العموم، ان العلاقة مع الادباء والفنانين لا افتعال فيها مطلقا بالنسبة لي. وقد حاولت دائما ابراز وتثمين العطاء الخاص بعدد كبير من المبدعين العراقيين لا سيما الذين تقاطعت معهم في ظرف او آخر. فقد نشرت مقالات مطولة حول عدد كبير من الشعراء والفنانين والمفكرين العراقيين لا سيما الرواد والمجددين فعلا منهم بما فيهم الشعراء باللغة العامية كالحاج زاير وفدعة، ولدي الآن اكثر من جزء مكتمل من كتاب في هذا الشأن قد يرى النور قريبا. كما ان كتابي الجديد «مئة سنة من الفلسفة في العراق» تطرق بشكل او آخر الى معظم المساهمين في المنجز الفلسفي العراقي خلال القرن المنصرم.

 برأيك، هل يمكن القول ان هناك فلسفة عربية؟

- لا توجد فلسفة عربية لكن هناك مفكرون عرب لديهم محاولات فلسفية مهمة لم ترق بعد الى مستوى النظام الفلسفي الخاص انما ظلت تدور في اجواء المدارس والتيارات الفلسفية العالمية او سعت على تحديث مضامين سلفية مقنعة او التنقل بين محطات فلسفية مختلفة دون النجاح في بلورة هوية ملموسة. واجمالا، فان طبيعة جميع هذه الجهود اصطدمت دائما بعقبات موضوعية أهمها ان المناهج التي اعتمدتها هي مناهج تقليدية اجمالا مما قولب حيوية عطاءات هؤلاء المفكرين ومعظمهم مؤرخو فلسفة في الأصل وقلص من حريتهم في الحركة الابداعية التأملية او الفلسفية.

 هل تعتقد ان العقل الفلسفي العربي ظل قاصراً ومحدوداً ؟

- محنة الفلسفة في الثقافة العربية هي غياب شرط التفلسف الموضوعي الى الآن وهو الحرية والحرية بالتحديد التي هي ليست مجرد حاجة او ضرورة بالنسبة لهذا النشاط المعرفي، كفعل ابداعي، انما هي مادة وجوده الاساسية واكاد اقول الوحيدة لان الفلسفة في اسمى تعريفاتها ليست شيئا آخر غير الحرية. والحال ان غياب الحرية بمعناها الشامل وليس السياسي فقط حقيقة. فمعايير الاستبداد والقسرية والردع من جانب والقدرية والكبت والتقية من جانب آخر تحكم المعادلة الملموسة والميتافيزيقية للعلاقة بين الواحد منا والآخر وحتى الواحد ونفسه. وهذا الشكل من العلاقة هو الذي يحكم بداهة علاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة الدولة بالمجتمع المدني وعلاقة الجماعة بالفرد، والتي تتميز بهيمنة الاول وتدمير الاخير وتحويل الفرد الى مجرد رقم بين الارقام لا يمتلك من حريته اي من انسانيته سوى طابعها السطحي. ففي ظل معايير كهذه لا يبقى من الفلسفة إلا طابعها السطحي هي ايضا لانها تفتقر الى الشرط الموضوعي لتحققها العميق.

 في كتابك «الفلسفة البابلية تعيد جذور الفلسفة الى البابليين.. ترى هل كان هناك - تأثير للفلسفة البابلية على الفلسفة الاغريقية؟

- مؤرخو الفلسفة الاغريق اكدوا دائما على الوجود القديم للفلسفة في بابل واحتمال ان تكون منبع الأفكار الفلسفية الاغريقية الأول مثل فكرة الفيلسوف اليوناني طاليس بان الماء اصل الأشياء فيما يبدو التشابه قويا بين نظرية افلاطون عن وجود «عالم مثل» أعلى وفكرة البابليين عن وجود عالم كمال أعلى تأتي منه الشرائع الى الارض كشريعة حمورابي. وانا اذهب ابعد من ذلك في كتابي «الفلسفة البابلية» اذ حاولت اثبات صواب الاستنتاج بان معنى «فيلو سوفيا» في اللغة الاغريقية نفسه، اي «حب الحكمة»، بابلي الاصل كمصطلح وكمضمون، وانه يعني تكوين فكرة عقلانية شاملة عن الوجودين الالهي والإنساني. ودعمت هذا الاستنتاج بان افلاطون نفسه لاحظ في احدى محاوراته ان كلمة «سوفيا» ليست اغريقية في أصلها اللغوي، وتوقع انها قد تكون وفدت إلى بلاد اليونان من ثقافة أجنبية مجاورة، ويقصد البابلية بلا ريب. ولاحظ افلاطون أيضا أن اليونانيين استعاروا الألفاظ من الحضارات المجاورة غالباً، معترفاً وبصراحة نادرة، بأن نشوء الفلسفة في اليونان كان بتأثير من الأفكار والفلسفات الواردة او المستلهمة من حضارات بلاد النهرين السابقة على الحضارة اليونانية.

 لكن هناك اجماع عالمي على ان الفلسفة بدأت في اليونان؟

- أن البابليين امتلكوا منظومات فلسفية في عدد مهم من المجالات، وكانوا اساتذة الاغريق في مجال الفلسفة أيضا وليس في الرياضيات والفلك والهندسة وحسب كما هو ثابت، دون تضئيل عظمة دور العقل الاغريقي في اثراء وتطوير نظريات فلسفية وعلمية كثيرة سابقة عليه او ابداع الجديد منها. والحقيقة ان شحّة المعلومات والنصوص الاصلية المترجمة عن اللغات العراقية القديمة مباشرة التي وصلتنا الى الآن هو السبب في هذا الرأي، الى جانب فقدان مؤلفات فكرية وتاريخية كانت معروفة لمؤلفين وعلماء بابليين او كلدانيين اشتهر بعضهم في بلاد الاغريق نفسها بعد ان هاجروا اليها بعد سقوط الدولة البابلية على يد الاخمينيين، ومنهم الفيلسوف الرواقي ديوجين البابلي وبيروس البابلي وسلوقس الكلداني وكيدينو نابو ريمانو وسودينيا وسواهم ممن تذكرهم المؤلفات الاغريقية القديمة نفسها وتخصص لهم مكانة تفيد احيانا بأن عبقريات بعضهم الفلسفية تفوقت حتى على كبار الفلاسفة الاغريق المعاصرين لهم. ويزداد الحال تعقيداً عندما لا نستطيع ان نتعرف بدقة الى الآن على جميع ما اقتبسه او استلهمه المفكرون الاغريق القدماء من افكار اسلافهم السومريين والبابليين والمصريين والفينيقيين والآشوريين الفلسفية او الدينية او السياسية رغم ثبوت بعض وقائع ذلك الاقتباس والاستلهام. لكن المصادر الاغريقية والرومانية تؤكد مثلا أن فيثاغورس قام برحلة دراسية طويلة إلى بلاد ما بين النهرين دامت اثني عشر عاما مكنته من تعلم الكثير من النظريات والافكار الهندسية والحسابية ورصد المظاهر الفلكية وقياس المسافات والمساحات، ومنها نظريات بابلية في قياس المثلثات وأطوال أضلاعها ومساحاتها صارت تحمل اسمه الى الآن. والدليل الواضح على اقتباسه لها خلال فترة رحلته الدراسية تلك، ان احداً لم يذكرها او يعرفها سواه من المفكرين الاغريق قبل عودته من بابل. ونحن نعتقد ان فيثاغورس كان بابلي الاصل وليس يونانيا. وكذلك الامر بالنسبة لثاني فلاسفة المدرسة الطبيعية انكسيمندرس. فهو الآخر لم يكن اغريقي الاصل بل من اصول بابلية ثقافية على الاقل، وهذا انعكس في افكاره الفلسفية كطرحه فكرة تطور الموجودات من اصول مائية وهي فكرة سومرية، وايضا ما ينسب له من وضع اول خارطة للعالم ما يؤكد معرفته الواسعة بالمعارف البابلية. فالدراسات الحديثة تجمع الآن على ان اهتمام البابليين بالرسومات الدقيقة لخرائط المدن بدأ مبكرا وقد عثر بالقرب من كركوك في العراق على لوح من الطين بمقياس رسمت عليه خريطة لوادي نهري بين تلتين قدر بانها تعود للالف الثاني قبل الميلاد كما أن خريطة أخرى تعود للقرون الرابع عشر قبل الميلاد اكتشفت في مدينة نفر (نيبور) السومرية وفيها ولصف جدران ومباني المدينة المقدسة فيما تعتبر خريطة العالم البابلية التي تسمى Imago Mundi أقدم خريطة في العالم. فقد عثر عليها في سيبـّار، وهي تعود الى ما بين 700 - 600 ق.م. ومنقوش عليها بالحرف المسماري.

 عاشتْ أوربا أسوأ أوقات حياتها لعدة قرون، قبل ان يعلن التنوير إنتصاره، فكيف كان ذلك ؟ وهل يمكن ان ينتصر التنوير في بلادنا ؟

- لا نهضة ولا تحرر في بلادنا بل لا تحضر بدون حركة تنوير جريئة وحرة لا تقلد احداً ولا تنشغل بسفاسف الامور بل تتجه مباشرة الى تأصيل نفسها لأبعد ما تستطيع في تاريخنا وتراثنا وفكرنا التنويري الأصيل دون مخاوف ودون عقد. علينا ان نعرف أولا لماذا لم تعرف بلداننا عصر “تنوير” في العصر الحديث لحد الآن؟ وكيف يمكن تحقيقه وضمان نجاحه الفعلي كما حققه الاوروبيون قبل ثلاثة قرون وكذلك فعل إثرهم الامريكيون واليابانيون والصينيون وغيرهم ونجحوا هم أيضا هنا او هناك.. لكن علينا أيضا ان نبذل جهدا هائلا لتوضيح بان حركة التنوير ليست حركة هدّامة او متمردة او مشاكسة كما يزعم البعض. انما تبشر بنظام جديد من المفاهيم والقيم الإنسانية الواقعية والسامية. والحقيقة ان انتصار حركة التنوير كان الشرط اللازم لأوربا كي تنتقل من عهد مسلمات العصور الوسطى الراكدة وحروبها الصليبية الاجرامية الى تطورها الراهن كدول صناعية متقدمة ذات أنظمة دستورية حديثة وعادلة.

 هل تعتقد بوجود تضاد بين الإسلام والعلمانية ؟

- ليس هناك أي تضاد في نظري. العلمانية هي الاعتماد على العقل في تفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وهذا لا يتعارض باي شكل من الاشكال مع الدين لا سيما وان العلمانية تدعو لأن تقف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان فضلا عن ان العلمانية بفصلها الدين عن الدولة، لا تقصد ولا تستطيع إقصاء الدين عن الحياة العامة وفي كل الأحوال لا يوجد تعريف ثابت ونهائي لمفهوم العلمانية كنسق عام بل هي تنشأ متأثرة بمعطيات كل مجتمع وتختلف باختلاف السياقات الاجتماعية والتجربة التاريخية لكل دولة وبالتالي فإن خصائصها تختلف من بلد لآخر.

 خضت عالم السياسة منذ بواكير عمرك .. اين يتجلى هذا الامر في حياتك الان؟

- لا يتجلى في أي مجال بصراحة. لست سياسيا محترفا. في الثالثة والعشرين من العمر تركت بغداد فجر يوم 12/5/1971 هربا من الاعتقال من قبل الاوباش البعثيين وكان علي قطع الطريق طولا من بغداد الى اقصى الحدود الشمالية حيث مكثت لنحو ثلاث سنوات ونصف في الجبال في تجربة فورية عبثية الا انها أبقت رأسي في جسدي. وفي السادسة والعشرين من العمر قطعت العراق عرضا من الحدود الإيرانية الى الحدود السورية مشيا او على ظهر بغل اذ كان علي التسلل وحيدا الى الأراضي السورية هربا من كمائن ذات القتلة. كانت تجربة فريدة في المعاناة والاخفاق أيضا. خليط من المثالية الرومانتيكية والقدر القاسي لجيل عراقي بأكمله قاسى فترة بعثية اشد ظلاما من أي فترة مظلمة. حب العراق كان معي، معنا، دائما في كل المحطات كما ان العودة اليه كانت هدفا معلنا بالنسبة لنا. وجدناه فريسة لأوباش جدد. انها لنوع من التراجيديا السوداء ان تعود الى بيتك بعد فراق طويل لتجده محتلا من جنود أمريكيين يرطنون حتى بالانكليزية ومن مافيات محلية وعصابات دينية وغير دينية تتحكم برقبة كل شيء كنت تحبه، او ان تعيش في شبه سجن يسمى المنطقة الخضراء التي كتبت عنها قصيدة.

وكيف بدأت القصيدة؟

رأسي سجنٌ بمئاتِ الأبواب

ونوافذُ بحرابٍ نافرةٍ

وبقايا أقمارٍ، ونيازك

تتقاطع كسيوفٍ من فضة

في جُنحِ الأسوار الخرساء المرصوصة رصاً حول الروح

في المنطقة الخضراء

 كان لك دور فاعل بعد 2003 في العراق، إن من خلال تسنمك رئاسة مفوضية الانتخابات او من خلال نشاطك السياسي وايضا باشتغالك في مناصب المستشارية لعدد من السياسيين القادة.. ما هي قراءتك للوضع السياسي في العراق في هذه الفترة.

- كان لي دور تقني كاول رئيس لمفوضية الانتخابات بين 2004 و2007 وايضا كمستشار انتخابات لرئيس الوزراء بعد 2021. وهي وظائف لم ابلغها بفضل نشاط سياسي سابق او جديد لانني لم اشتغل في السياسة منذ عودتي الى العراق ولم اقبل او اعترف بشرعية أحد من ممثلي الطبقة السياسية المهيمنة حاليا، بل بلغتها بفضل مهارات مهنية اكتسبتها من عملي كموظف انتخابات دولي حيث عملت في بعثة الأمم المتحدة الى هايتي بين 1993 و1995، ثم رشحتني في دول ووظائف أخرى مختلفة.

ومع ذلك لست موظفا عاديا عندما اعمل في العراق. فهنالك في عملي بالانتخابات العراقية عوامل جذب وتحديات فكرية وسياسية وطنية تغريني بالعمل من اجلها ولو جزئيا وعلى حساب العائلة والنفس غالبا. وقد اخطئ او أصيب في تقديراتي لكني لا اتنكر لها مطلقا. بالتأكيد لا توجد ضمانات كافية وهناك انتقادات لي لان كثيرين لا يؤمنون بواقعية هذا المشروع. الا انه لا خيار لي سوى المحاولة وتصحيح المحاولة. اما عن قراءتي الخاصة للوضع السياسي العراقي الراهن واتجاهاته، فاعتقد ان معركة المستقبل بدأت للتو. هناك وطن يحتاج مجتمعه الى مصالحة مع نفسه والى وحدة حقيقية بين دولة حديثة ومتقدمة وشعب متطلع الى الامام بثقة كما اثبتته انتفاضة تشرين، وحدة تقوم على طي صفحات الماضي واستعادة الثقة بالنفس وبالمؤسسات، وعلى تأسيس تجربة ديمقراطية جديدة تقوم على العقد الاجتماعي ومرجعية الثقافة والأخلاق والضمير. لقد ألحق العراقيون بتنظيم داعش الارهابي هزيمة عسكرية خالدة قبل سنوات، في نصر صفق له العالم، وكان المطلوب ان يتعزز ذلك النصر العسكري التاريخي بشكل عاجل ومستديم، ليس فقط باستئصال جذور الورم الداعشي من رؤوس أشخاص وجماعات من كل الطوائف، ظلت قادرة على التخفي المرحلي او حتى التلون والتأقلم على المدى المنظور بأمل مجيء فرصة جديدة للانقضاض كالذئاب على المواطن الأعزل ثانية، بل ايضا، بالتقدم الواثق خطوات ملموسة باتجاه اقامة دولة المواطنة والمؤسسات الكفيلة بضمان الوحدة العميقة لكل العراقيين دون استثناء او تمييز. فلا هزيمة حاسمة للعقل الداعشي وقدرته على اعادة انتاج نفسه عاجلا ام آجلا، الا ببناء دولة حديثة تحصر السلاح بيد الدولة وتحترم حقوق المرأة وحقوق الانسان وحرية التعبير والحق بالاختلاف وترعى الكتاب والفنانين والرياضيين والفلاسفة، والا بهزيمة نظام المحاصصة الطائفية والحزبوية والفئوية، الذي هو مجرد مصنع للفساد اي مصنع لتدمير مستقبل الوطن والمواطن.