قناطر: غربة التسميات ومآل أهل القرى

Saturday 15th of January 2022 11:28:39 PM ,
العدد : 5105
الصفحة : الأعمدة , طالب عبد العزيز

 طالب عبد العزيز

أقول طريق أبي الخصيب، وأجمل منه قولي (درب أبو الخصيب) ولا أقول شارعَ ابي الخصيب، أشعر أنَّ لفظة شارع فيها كثير من القلق والشجار والزحمة، ومعها يكون المكان أكثر سعة واستقامة، وأقل أشجاراً، وأوحش ناساً، هكذا، أما درب، فهي الاليق بالمكان الاخضر، كثير البساتين، والذي تخترقة الانهار،

وتكثر فيه الجسور والقناطر والمعابر، والناس الذين يسكنون على جانبي الدرب هم الاصدق في التعهامل والاوفى في المواعيد والارق قلوباً، هكذا، ولا أتجنى إذا ما قلت بأنَّ بلدية البصرة وبعد أن أنجزت توسعتها لطريق ابي الخصيب، وجعلته بممرين، وجزة وسطية صغيرة، ورصيف ضيق تكون قد أجهزت بالكامل على واحدٍ من أجمل معالم المدينة وميزاتها التاريخية، ذاك هو درب ابو الخصيب.

“أخذت الناس تغرس فسائل النخيل هنا، احتفروا الآبار والجلبان، وأفلح كثيرون بالحصول على الماء الصالح للزراعة، فصارت بساتين واسعة لأنواع من النخل والاشجار، وزرعوا الباميا والخيار والباذنجان والخضار ووو”. هكذا راح يحدثني أحدُ سليلي الاسر الفلاحية في ابي الخصيب، ممن أجبروا على ترك بساتينهم في قريتنا، واضطروا الى البحث عن أرض جديدة (فلاحة) في غرب شط البصرة، ولمن لا يعرف الشط أقول: هو النهر الذي احتفره الجهد العسكري في نظام صدام حسين إبان الحرب مع إيران، بغية تأمين حركة القطع البحرية العسكرية باتجاه البحر، ثم تحول الى مبزل لتصريف المياه المالحة في منطقة الاهوار، والذي اجتهدت حكومة البصرة أخيرا فجعلته قناة لتصريف المياه الثقيلة والخفيفة لسكنة حي القبلة الجديد، هم الذين اكثروا التظاهرات واجبروها على الانصياع، هذا الشط الافتراضي هو ما يحدثني عنه الفلاح المطرود من جنته على شط العرب الى جحيمه قرب شط البصرة، هو ينسب الارض التي يزرع فيها الآن إلى قيعة خائبة، بين الملح والرمل تسمى(خويسات).

في (دفاتر الايام) كتاب سيرته، يكتب يوسف الخال(1917-1987):” كم حزنتُ عندما علمتُ بأنَّ السلطة اللبنانية منعت عربات الخيل في صيدا، وكانت قبلها قد منعتها في مدينتي طرابلس، لماذا هذا التجني على بقية الماضي الجميل ؟ أضاق في عيون السلطة مشهد هذه الخيول المطهمة، وهي تنطنط وتقرقع وتصهل وتفشك، مزهوة بمن تجر، اكانوا زمرة من السكارى أو شلة من الاحباب أو الاطفال أو الصبابا ؟ إنه طغيان التمدن والعمران، وهو طغيان لم يحرمنا عربات الخيل فقط بل حرمنا الكثير مما هو عتيق حلو” وفي أكثر من مكان يقرن يوسف الخال الأضاع السيئة وما يحدث من تردٍ في لبنان بما يحدث في العراق والمنطقة العربية. قرابة أربعين سنة مرت على رحيل الخال، والسوء ذاته وأكثر.

مازالت ترن في أذني قرقعات عربات الخيل المحملة الرطب والفاكهة، ويقشط الهواءَ سوطُ حوذييها، في الصباحات الباكرة، وما زلت اسمع غرغرات عجلات باصات الخشب، وهي آخذة طريقها الى سوق البصرة القديمة محشوة بأقفاص الدجاج والبيض واللبن والزبدة وشتلات الورد والفلفل والاس، وما زلت أتحسس مقعدي في الباصات تلك، وأحلم مع هؤلاء المكدودين الفرحين بالعودة باكراً الى غابة النخل، مخترقا قناطرها الالف الى ظلام ظلالها الكثيف ...

بعد إكمالها الشارع أنبتت البلدية لوحات تعريفية زرقاء، تشير الى جديدها (العبقري) فسمّت قرى وقصبات (عويسيان وفريج الصخر وعبدالليان والمحولة وابو سلال وفجة ابن نعمة وطريق الجلبي ومهيجران وحمدان وكوت الضاحي وأبي مغيرة ونهر خوز وباب سليمان ووووبـ (شارع كذا وكذا) ولنا تصور حجم حسرات أهل القرى تلك، التي كانت ذات يوم مثابة الدعة والطمأنينة مثلما كانت مثابة النخل والفاكهة والخضار.