سامراء و بهزاد .. والاسئلة المفترضة!

Sunday 16th of January 2022 11:08:40 PM ,
العدد : 5106
الصفحة : عام ,

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

اهتمامي الكبير وشغفي البحثي في "عمرانية سامراء" العباسية (الدراسة التى منهمك بها الآن)، تجعلني ارى المنتج التصميمي السامرائي، بشكل آخر،

بشكل يتيح لي التمعن في هذا المنتج، بكونه منجزا تصميميا راقيا، متشكلاً جراء براعة تصميمية لمعماريين ماهرين، اعتمدت خبرتهم المهنية على مرجعية ارتكزت على تقاليد تصميمية محلية متراكمة، مع سعيهم الحثيث للتعلم من "الآخر" والتطلع للاستفادة من خبرته ونجاحاته، لجهة اثراء ممارساتهم وزيادة مهاراتهم. كما اتوق لتفحص ذلك المنتج السامرائي من خلال ما يوفره المناخ الابداعي الخاص في الحاضرة العباسية وقتذاك من إضافات مؤثرة أسهمت في اصطباغه بصبغة مُجددة.

لكن الاهم في كل ذلك تبقى تقصياتي في سبر اغوار "جوهر" الابداع الكامن في ذلك المنتج المتحقق والحفر عميقا في ماهيته الخلاقة واستحضار روحه واطيافه القابلة للاستدعاء والتأويل! في هذا المعنى، أستدل من خلال الاسئلة المتعددة (والمفترضة!)، التى اطرحها على المنتج المعماري، الوصول والحصول على اجابات شافية وملائمة، تساعد في تقييم نجاحات ذلك المنتج وتدعم محاولات الكشف عن جديده و اِجتهاده.

اعرف، على سبيل المثال، بان المادة الرئيسية (والاساسية ايضا)، لمباني سامراء، كانت: الطابوق: الآجر المحروق وغير المحروق. ما يهمني معرفة كيفية تأمين تلك الكميات الهائلة المقدرة اعدادها "بالملايين" من الآجر، وكيفية انتاجه في اوقات قياسية ونقله الى مواقع العمل، والاطلاع على طرق البناء وإدراك تنوع حرف الاسطوات ومهارة العمال في تنفيذ افكار معمارية بدت احيانا غير تقليدية وحتى غير مسبوقة! أو ان أبدي تساؤلات تخص عمل المسجد الكبير في المدينة، وكيفية أداء مهامه تجاه مستخدميه، هم الذين في الغالب (وبحكم نوعية أكثرية سكنة سامراء)، يصلون اليه وهم يمتطون صهوة حصنهم من اماكن سكناهم النائية التى تبعد، عادة، عن موقع الجامع بكيلومترات عديدة. كما يبقى التساؤل الاهم: اين، في مثل هذة الاحوال، "تربط" خيولهم، وهل من ثمة امكنة خاصة لهذة الغاية بجوار المسجد الجامع، واذا كانت موجودة فمن الذي يشرف عليها وكيف يتم تنظيم عملها، وثمة تساؤل آخر، اين، في اي مكان من المسجد، كانت النساء يؤدين الصلاة فيه، بل هل يوجد اصلا نساء يذهبن الى المسجد للصلاة؟، وما تأثير ذلك على مخطط المسجد الجامع، وكيف حلّ المعمار هذة المعضلة التصميمية. وثمة اسئلة آخرى كثيرة اطرحها على باقي المنشاءات، متوخياً ايجاد فهم اعمق لما هو متحقق. بيد ان الوصول الى اجابات مقنعة يستلزم مني أحياناً تماهياً خاصاً مع نماذج الابنية السامرائية، يسهل عليّ تقييم المجترح خارج "اقانيم" ادوات النقد المعماري الكلاسيكي المتعارف عليه، ويساعد في تثمين قيمة المنجز المهنية والإشادة ببراعته التصميمية.

وحتى اكون قريبا من المشهد المعني، و"التحدث" مع "خلّاقه": معماريه و "اسطواته" وشغيلته، فاني اتقصد البحث في اوراق التراث، لالمس لمس اليد..والعين، ما كان مالوفا سابقا وما كان معتادا في الماضي السحيق من مشاهد بنائية محكية او مرسومة تقرّب الصورة، وتمنحنى معارف اضافية ذات صدقية عالية عن المنجز المعماري وعن كيفية إجتراحه. ومن غير "بهزاد": <كمال الدين بهزاد>، يمكن له ان يكون بديلا عن مبتغاي؟! فهذا الرسام "المنمنماتي" القدير والبارع رسم لنا "رسمة/ منمنمة"، هي وفق رأي كثر، تُعدّ من كنوز الفن الاسلامي. وأعني بها منمنمة <تعمير قصر الخورنق> التى تعود الى عام (1494)، هي التى تظهر بحذق كبير وبفنية عالية اعمال بناء وتنفيذ قصر الحيرة الشهير..والاسطوري!

لم تكن قصة "سنمار" معمار هذا القصر المنيف الذي طبّق صيتُه الافاق وحاز على اعجاب وافتنان مشاهديه الكثر، والذي تكفل النعمان بن المنذر بتشييده في القرن الرابع الميلادي، لم تكن تلك القصة مدار اهتمامي، ولو ان "حكايتها" جديرة بالتذكير والموعظة، وإنما اهتمامي كان منصبا نحو اجراءات عملية البناء المرسومة في اطار المنمنمة، نحو مشاهدة "المعاميير" ومتابعة الاسطوات وعمال البناء وهم منشغلون في حرفتهم وصنعتهم، كل حسب اختصاصه لتنفيذ ذلك القصر العجيب الذي ما فتئت اسطورته تدهشنا، حول امكانية انهياره بالكامل برفع طابوقة واحدة: طابوقة.. لا غير، مخفية بمكان سري في صميم نظامه الإنشائي. في تلك المنمنمة يظهر بهزاد كل موهبته واتقانه وابداعاته الفنية في تبيان لحظة تجسيد الفكرة المعمارية واقعيا وبشكل ملموس! انه، وهو الفنان القدير، الذي اضاف الكثير لصنعة المنمنمات الاسلامية، وخصوصا مقدرته الكبيرة..والجريئة في اظهار المساحات الفارغة في التكوين، وجعلها مسرحا لحضور شخصياته وهم في حركتهم الذين يظهرهم بجلاء وبكل تفردهم الشخصي.. والفني؛ فضلا على موهبته الفذة في التعاطي مع الالوان، وتبيان مهاراته التقنية، جنبا الى جنب قدرته في اجتراح تكوينات اصيلة. في تلك المنمنمة الشهيرة تغدو شخوصها المترعين في حب وعشق مهنتهم، يؤدون عملا مرغوبا وممتعا يتوق كل واحد منهم الى اظهار نوع من عناية واهتمام فائقين بما اوكل اليه. كما انه وهو "الملون" البارع يسعى وراء تثبيت انواع صبغة ملابس العمال كنقاط ملونة ومضيئة، مختارة بعناية، تثري، في الاخير، تشكيلات تكوين اللوحة الفنية! ثمة شخوص، اذن، بأردية ملونة ينشرهم الرسام في فضاء اللوحة بحرية تامة، وبتوازن رهيف ولكن ليس شرطا حضور تماثلية ما لجهة بلوغ مثل تلك الرقة والكياسة التى تظهرها هيئات الشخوص المرسومة بحركاتهم المتنوعة.

ثمة تعاطف انساني يمكن للمرء (يمكنني شخصيا) تلمسه، يبديه فنان المنمنمة تجاه "المعاميير" والاسطوات وشخوصهم المرسومة وهم في مواضع مختلفة مشغولين في انجاز رائعتهم المعمارية، التى تذكرنا (تذكرني) مفرداتها الانشائية المرئية، الى ما يمكن ان يكون سياقاً بنائيا مألوفاً في تلك الحاضرة العباسية الاثيرة لديّ، والمغرم بها الآن وبانجاز تصاميم مبانيها الفاخرة وباساليب عمرانيتها الفذة! وتترك مراقبة المشهد البنائي المصور بعناية فائقة وبتفاصيله الاساسية البليغة والمتقشفة الخالية من التحسينات غير الضرورية، انطباعاً وكأن <رائي> المنمنمة، منهمك هو الآخر في عملية البناء والتشييد، وكأنه <شاهداً> لانتاج تلك العناصر المعمارية المرسومة، وكأنه <عارفاً> باسرار تصاميمها ومطلعا على نجاحاتها الاسلوبية، هي التى بدت هيئاتها قريبة من الانتهاء.

وتبقى موضوعة المنمنمة وتمازج شخصياتها باوضاعهم ومواقعهم المختلفة، تشي بتلك العفوية المبهرة التى استطاع بهزاد ان يبدعها بكثير من الوضوح والاختزال، تلك العفوية ذاتها التى تعيد تأثيث المنمنمة بعدة فنية، تتجلى من ضمن ما تتجلى بامتزاج الشخوص مع نوعية العمارة، العمارة التى تستدعي بحضورها البهي ذاكرة الامكنة البعيدة التى اسست وساهمت في تشكل ذخيرة التقاليد الاسلامية الرصينة، بضمنها بالطبع مساهمة "سر من رأى" وإرثها الآسر !

(و"كمال الدين بهزاد" المولود في هرات بخراسان نحو عام 1455 م، الذي تيتم في سن مبكرة؛ يعتبر احد المجددين في رسم المنمنمات الاسلامية، درس التصوير على يد "بير سيد أحمد التبريزي، و"علي ميرك نقاش" عُين مديرا للمكتبة الملكية في هرات وتبريز، صور ديوان "حديقة سعدي" الشاعر الفارسي المعروف، وله تلاميذ ومريدين كثر. واعماله محفوظة في دار الكتب المصرية بالقاهرة والمتحف البريطاني ومكتبة يلدز باسطنبول، توفي في تبريز نحو 1535 م.)