كيف أعاد الأنثروبولوجيون الثقافيون.. تعريف الانسانية ؟

Tuesday 18th of January 2022 11:17:07 PM ,
العدد : 5108
الصفحة : عام ,

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

القسم الأوّل

ثمّة فكرة ( أراني متفقة معها كلّ الإتفاق ) سائدة في أوساط الإنتلجنسيا العالمية مفادها أنّ مبحث الأنثروبولوجيا الثقافية ( أو الإجتماعية ؛ إذ لافرق )

هو الأصل الذي يمكن منه إشتقاق كلّ المباحث السائدة في الإنسانيات ( أدب ، شعر ، تأريخ ، جغرافية ، علم إجتماع ، سياسة ، إقتصاد ،،،،، إلخ ) . الإشتقاق هنا بمعنى أنّ الأصول الاولى للمبحث المقصود في الإنسانيات يمكن معاينة بداية نشأتها بتوجيه البؤرة البحثية نحو موضوعة محدّدة في الأنثروبولوجيا الثقافية ؛ وعليه فإنّ الإحاطة ببدايات نشأة الأنثروبولوجيا الثقافية ستكون شرطاً لازماً لكلّ المشتغلين في حقل الإنسانيات ، وفي الوقت ذاته لكلّ المعنيين بمباحث الأنثروبولولجيا والثقافة .

أقدّمُ في المادة التالية ترجمة لمعظم الفقرات الواردة في موضوع ثقافي يتّسمُ بالثراء والمتعة، كتبه لويس ميناند Louis Menand ونشره في مجلّة النيويوركر The New Yorker المعروفة بموضوعاتها الرصينة بتأريخ 26 أغسطس (آب) 2019. الموضوع منشور بعنوان:

كيف أعاد الأنثروبولوجيون الثقافيون تعريف الإنسانية ؟

How Cultural Anthropologists Redefined Humanity ?

تجدر الإشارة هنا أنّ لويس ميناند أحد الكتّاب الرئيسيين في النيويوركر، وهو يدرّسُ في جامعة هارفرد، وقد نُشِر أحدث كتبه بعنوان:

العالم الحر: الفن والفكر في الحرب الباردة

The Free World: Art and Thought in the Cold War

لن يخفى على القارئ الشغوف ملاحظة أنّ هذه المادة تكشف عن كثير من التفاصيل المثيرة رغم أنها تتناول موضوعة محدّدة في الأنثروبولوجيا الثقافية، ومن هذه التفاصيل الكثيرة مثلاً:

- شكل التعليم الجامعي الأمريكي في بدايات القرن العشرين، والتمايز الجندري فيه

- الخصائص التقدّمية التي سادت الأنثروبولوجيا الامريكية بالمقارنة مع الخصائص المحافظة (الأقرب إلى الروح الإستعمارية) التي طبعت الأنثروبولوجيا الأوربية

- من المثير أن نكتشف حقيقة أنّ الأب المؤسس لحقل الأنثروبولوجيا الثقافية هو فرانز بواس ؛ لكن برغم ذلك فإنّ الشخصيات الأربع الأكثر تميزاً بين تلامذته كانت من النساء اللواتي لعبن دوراً متفرّداً كذلك في هذا الحقل البحثي وأنجزن أعمالاً متميّزة فيه.

الآتي هو الرابط الألكتروني لمن يودُّ معاينة النص الأصلي للمادة المنشورة في النيويوركر:

https://www.newyorker.com/magazine/2019/08/26/how-cultural-anthropologists-redefined-humanity

المترجمة

ليس زمناً طويلاً ذلك الذي يفصلنا عن الحقبة التي كانت فيها مارغريت ميد Margaret Mead تعدُّ فيها واحدةً من أكثر الشخصيات الثقافية شهرة وانتشاراً بين أوساط الشعب الأمريكي. كتابها الأوّل " بلوغ سنّ الرشد في ساموا Coming of Age in Samoa "، المنشور عام 1928 عندما كانت ميد لم تزل في السادسة والعشرين، كان أحد الكتب الأكثر مبيعاً، وظلّت ميد لخمسين سنة عقب ذلك صوتاً تقدّمياً في النقاشات الوطنية التي تناولت موضوعات إشكالية شتى ابتداءً من الجنس والمباحث الجندرية وحتى السياسات النووية والبيئة وشرعنة تناول الماريغوانا (كانت تقف في صفّ الداعين لقبول هذه الشرعنة. دعونا لاننسى كان هذا عام 1969 !). إعتادت ميد كتابة عمود شهري في مطبوعة Redbook ذائعة الصيت التي كانت يقرأها الملايين، وظلّت تواظب على كتابة هذا العمود لستة عشر عاماً متواصلة، كما ساهمت ميد في تقديم المشورة للعديد من الوكالات الحكومية، وقدّمت شهادات عدّة أمام الكونغرس الأمريكي، وحاضرت في الكثير من الموضوعات المختلفة أمام حضور متباين في توجهاته الثقافية حتى بلغ الأمر بمجلّة Time الأمريكية واسعة الانتشار عالمياً أن تصفها " أمّ العالم ". في العام 1979 - وهو العام الذي توفّيت فيه ميد - منحها الرئيس جيمي كارتر وسام الحرية.

تعيشُ ميد في أيامنا هذه باعتبارها " أيقونة " بمعنى أنّ كثرة من الناس قد يعرفون إسمها ولن يكونوا مندهشين إذا مارأوا وجهها على طابع بريدي (مثلما حصل مرّة) ؛ لكن ليس في مقدورهم إخبارُك أي شيء حول ماكتبته أو قالته، ولو وجد هؤلاء الناس أنفسهم مدفوعين لقول شيء إضافي عنها فسيكتفون بالقول أنها كانت شخصية ذات اهمية استثنائية في الحركة النسوية، وهم إذ يفعلون هذا الامر فليسوا موضع ملامة لأنهم يخلطون بين الدور المحوري الذي لعبته ميد كنموذج ريادي في حقل الانثروبولوجيا والثقافة العامة وبين رؤى ميد الخاصة. لم تكن ميد ناشطة نسوية بالمعنى الحديث المتداول لهذه المفردة، وتُفرِدُ بيتي فريدان Betty Friedan فصلاً كاملاً بعنوان (الأكذوبة النسوية) لمهاجمة عمل ميد في حقل النشاط النسوي. ميد شخصية ذات اهمية استثنائية لأسباب تتعدّى الحراك النسوي المعروف، وأحد هذه الأسباب هي تلك التي يتناولها تشارلس كنغ Charles King في كتابه الذي منحه عنوان " آلهة المثابات العليا Gods of the Upper Air " الذي نشرته دار نشر Doubleday ؛ إذ في هذا الكتاب لاينفكّ كنغ يعلمُنا عن الأسباب التي جعلت ميد شخصية ثقافية بمزايا أسطورية.

كانت ميد شخصية رائدة في حقل الأنثروبولوجيا الثقافية، ونشوء وريادة هذا الحقل الأنثروبولوجي هو موضوع كتاب كنغ المشار إليه أعلاه. الكتاب هو في جوهره تجميعة لرؤى كتّاب متعدّدين بشأن سيرة " فرانز بواس Franz Boas " الذي وضع الأسس الراسخة للانثروبولوجيا الثقافية – باعتبارها حقلاً أكاديمياً له أصوله القائمة – في الولايات المتحدة، فضلاً عن سيرة أربعة من تلاميذ بواس: روث بندِكت Ruth Benedict، زورا نيل هرستون Zora Neale Hurston، إيلّا كارا ديلوريا Ella Cara Deloria، فضلاً عن ميد ذاتها. يجادل كنغ في كتابه هذا أنّ هذه الشخصيات الثقافية كانت تعملُ " في الجبهات المتقدّمة للحرب الأخلاقية العظمى في زماننا، والمقصود بهذه الحرب هو سيادة مفهوم أنّ الإنسانية كينونة واحدة لاتقبل التجزئة بصرف النظر عن الإختلافات السائدة في لون البشرة، والجندر، والقدرات الجسدية والعقلية، والعادات الثقافية والمعيشية. "

يرى كنغ أنّ الأنثروبولوجيين الثقافيين إستطاعوا تغيير توجّهات الناس مثلما استطاعوا تعديل سلوكياتهم، وهو يكتب في هذا الشأن:

لو أنّ الأمر صار في عداد البداهة المقبولة من غير مساءلة في أن يقرأ طالب جامعي كتاب الباغافاد غيتا Bhagavad Gita في برنامج دراسي جامعي يتناول الكلاسيكيات الكبرى في العالم، وأن يتمّ رفض العنصرية واعتبارها إفلاساً أخلاقياً وغباوة يمكن كشف غباوتها ذاتياً، وأن يتمّ تعزيز القدرات الفردية في أماكن العمل بعيداً عن الإعتبارات الجندرية والعرقية،،،،، فهذه كلها – مع أمور أخرى سواها – لم تكن نتاجاً لتطلعات طموحة لتنظيم المجتمع وصارت اليوم أموراً بديهية بقدر ماكانت نتائج طبيعية لأفكار بطولية قادها بواس وتلامذته ؛ لذا علينا جميعاً إبداء آيات الشكر والتقدير له ولمريديه الخلّص.

إنّ العمل المتفرّد لبواس ومُريديه يكمن في أنهم أزاحوا تأويل الاختلافات البشرية من حقل البيولوجيا (علم الأحياء) إلى حقل الثقافة.

وُلِد بواس وتعلّم في بروسيا Prussia، ثمّ هاجر إلى الولايات المتّحدة عام 1886 عندما كان في الثامنة والعشرين، وبعد عقد من الزمن وعقب محاولات كثيرة لم تُصِب نجاحاً يذكرُ تمكّن بواس أن يشغل موقع أستاذ جامعي (بروفسور) للأنثروبولوجيا في جامعة كولومبيا، وقد كان هناك عُرضة لحروب عديدة شغلت سنوات ليست بالقليلة، وكان أحد أسباب تلك الحروب – في الأقلّ – هو معاضدته لسياسات الأجنحة اليسارية. يكتب كنغ في كتابه أنّ أحد مظاهر تلك الحرب هو أنّ قسم الأنثروبولوجيا في جامعة كولومبيا نُقِل إلى موقع فوق قسم الصحافة ومُنح سبع غرفٍ: واحدة لبواس ذاته، والأخرى غرفة سكرتاريا، وتُرِكت الثالثة فارغة.

تمكّن بواس، بشكل من الأشكال، تدريب جيل كامل من الأساتذة المتميزين في حقل بحثي كان حتى أعقاب الحرب العالمية الثانية تخصصاً أكاديمياً في نطاقات ضيقة. نشطت المؤرّخة لوي بانر في إحتساب عدد شهادات الدكتوراه Ph.D في حقل الأنثروبولوجيا والتي مُنِحت في الولايات المتحدة للفترة من 1892 حتى 1926 فوجدها خمساً وأربعين شهادة، والمثير في الأمر أنّ تسعة عشر دارساً للدكتوراه بين هؤلاء الخمسة والأربعين درسوا وأنجزوا متطلبات شهاداتهم تحت إشراف مباشر لبواس. تكتب بانر أيضاً أنّ أغلب أقسام الأنثروبولوجيا الامريكية، وبحلول عام 1930، كانت مرؤوسة من بل تلامذة بواس.

كان بواس كاتباً ذا قدرة مهولة على الكتابة، وهو بهذا يشابه إثنين من البروفسورات المؤثرين المعاصرين له: جون ديوي John Dewey، و ثورشتاين فبلن Thorstein Veblen ؛ لكنه يتمايز عنهما في كونه لم يدع الخوف يتسلل إلى روحه فضلاً عن إمتلاكه طاقة عجيبة على العمل وشخصية كاريزماتية ساحرة. كانت لبواس معالم قاسية في وجهه يعطي إنطباعاً للوهلة الأولى بغلظة طباعه وخشونة سلوكه، ومايعزّز هذا الإنطباع وجودُ تشوّهات في وجهه ناجمة عن مبارزاته بالسيف الحاد عندما لم يزل طالباً بعدُ في ألمانيا ؛ لكن برغم هذا كان طلّابه يعشقونه ويُبْدون ميلاً كاملاً لاتشوبه شائبة نحوه حتى إنهم إعتادوا مناداته " بابا فرانز ". تقاعد بواس من التعليم الجامعي عام 1936 ؛ لكنه ظلّ ناشطاً من الناحية المهنية حتى وفاته عام 1942.

نال بواس في بداية دراسته الجامعية تدريباً ممتازاً يؤهله لأن يكون فيزيائياً ؛ إذ كان موضوع تخصصه الفيزيائي في حقل الفيزياء النفسية Psychophysics ، ذلك العلم الذي يقيسُ أشياء بيولوجية محدّدة ذات علاقة بالخصائص النفسية للفرد، مثل العَتَبات Thresholds السمعية، وتناولت رسالته للدكتوراه كيفية إحتساب الطريقة التي يمكن بموجبها زيادة شدّة الضوء لكي يمكن للبشر ملاحظة تغيير ملحوظ في لون الماء. تبدو لنا هذه الموضوعة البحثية شيئاً غير ذي أهمية في البحث العلمي ؛ لكنّ بواس توصّل لنتيجة مفصلية شديدة الأهمية مفادها أنّ إدراكنا للون إنما هو دالّة Function تتغيّر تبعاً للظروف المحيطة بنا (وليست شيئاً ثابتاً في كلّ الاحوال، المترجمة). خلُص بواس في بحثه أنّ مراقبين مختلفين ستكون لهم إدراكات مختلفة للون ذاته تبعاً لتوقعاتهم وتجاربهم المسبّقة، وأنّ هذه الإختلافات ليست أشياء جوّانية (داخلية innate) بل هي أشياء يتمّ تعلّمها، والأمر سواءٌ إن نحنُ أدركنا هذه الحقيقة بطريقة واعية أم غير واعية. لم يكن للنتيجة البحثية التي بلغها بواس من تأثيرات واسعة في الأوساط الأكاديمية ؛ لكنه إعتزم الحديث بطريقة قصدية حثيثة عن وجود قانون عام للعَتَبات الحسّية.