فاشية التخلف – البعث العربي نموذجاً (9)

Thursday 20th of January 2022 12:02:39 AM ,
العدد : 5109
الصفحة : آراء وأفكار ,

من "المانيا فوق الجميع" الى "الرسالة الخالدة"

 د. حسين الهنداوي

رفض مؤسسو حركة البعث شكل النظام الديمقراطي الغربي وحضارته لانه متعجرف واستعماري، كما رفضوا شكل النظام الشيوعي لأنه لا يقر بصلاح أي ماض ويدعو الى بناء جديد عند مختلف الامم، ورفضوا كذلك فكرة العودة الى الماضي لاحيائه كما يرى أصوليو الإسلام السياسي بشتى مللهم ونحلهم.

ما يدعو له البعثيون بالمقابل هو "رسالة خالدة" وصفها ميشيل عفلق، بانها اتجاه "يعتبر حياة الامة كجسم حي كان صحيحا ثم اعتل، ويعتبر ان التقدم يعني معالجة المرض والعودة بالأمة الى الوضع السوي السليم". ونعرف كيف جرت هذه المعالجة البعثية وعظمة الدمار الذي احدثته وغزارة الدماء التي سفكتها وعمق الآلام التي خلفتها، والى أي "وضع سوي سليم" أوصلتنا اليه خلال نصف قرن مضى.

بيد ان المضمون الحقيقي للاتجاه البعثي يعبر عنه الشعار العرقي الشهير "امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" الذي، وحتى اذا كان المقصود منه ان الامة العربية تفوقت على غيرها باعتبارها حملت رسالة الإسلام الى البشر، يعيد الى الاذهان نشيد "ألمانيا فوق الجميع" (Deutschland uber Alles) الذي كتبه في عام 1841 الشاعر هينريش هوفمان فون فالرسليبن ليغدو النشيد القومي الألماني حتى الحرب العالميَّة الثَّانية حيث حذفت فقراته العرقية.

وما يؤكد المنبع الأوروبي لقصة "الرسالة الخالدة" قول عفلق نفسه: "ان الامة التي يختارها القدر لتكون مسرحا لهذه التجربة، البشرية السماوية، هي امة حكم عليها، والى الابد، ان تكون متميزة عن باقي البشر" (في سبيل البعث).

لا يمكن، استنتاجا، التغاضي عن دور النداءات العرقية البعثية الكبير والخفي في التسبب بما حل بالعراق وسوريا من كوارث وتحطيم وعبء احتلالات اجنبية عديدة تماما كما هو دور النداءات العرقية الهتلرية التي كلفت الالمان اكثر من خمسة ملايين قتيل خلال الحرب العالمية الثانية وحدها ما عدا الدمار المادي الشامل لبلادهم وعبء احتلال مستمر حتى الآن.

وبالفعل، فكلما تعمقنا في دراسة النصوص الأيديولوجية البعثية الأساسية والتأسيسية، كلما تأكد لنا طابعها الغالب كسرديات انشائية فضفاضة فكريا، ثم سرعان ما نكتشف ان منابعها الاصلية تكاد تقتصر على مقولات معروفة من الفكر القومي الأوروبي وخاصة الإيطالي (مازيني) والألماني (فيخته) والفرنسي (ارنست رينان) لكن المأخوذة جميعها بحرية تصرف وترويض واضحة في التعريب والتغريب والصناعة البلاغية والاثارة اللغوية والعاطفية. وهذا ينطبق على كتابات ميشيل عفلق بشكل خاص فيما تبدو نصوص شبلي العيسمي والياس فرح وسواهم تكرارا نمطيا لها رغم بعض التفلسف المتصنع والتراشق بالمفاهيم.

من جانب آخر، ومثلما كانت الشعارات وحلقات وطقوس التنظيم الشيوعية في العالم العربي وغيره مقتبسة من التجربة السوفييتية دون تمحيص، فان الشعارات وطرق التنظيم والتسميات البعثية لم تكن نتاج الثقافة العربية هي أيضاً انما اقتبست بشكل مباشر من التجربتين الفاشية والنازية اللتين جرى استلهامهما بحكم تماثل الوضع التاريخي للقوى وصراعاتها وإمكان استخدامهما كأدوات ايديولوجية جاهزة ومجربة في مقاومة او محاربة الفكر الشيوعي اساسا باعتباره العدو المباشر والمعلن من قبل الايديولوجية البعثية منذ مرحلتها التأسيسية المقترنة بسنوات الحرب العالمية الثانية التي امتد مجالها الحربي والسياسي الى الدول العربية. ولا بد هنا من التذكير بالدور الخاص لسفير المانيا النازية في العراق فريتز غروبا ( Friz Grobba (1886-1973بترويج الأفكار النازية وكسب كثير من المثقفين والتربويين العراقيين للمشاركة في نشرها بين الشباب والفتوة فضلا عن قيامه بنشر اول ترجمة عربية لكتاب (كفاحي) في صحيفة باسم "العالم العربي" أصدرها في بغداد.

ويخبرنا ميشيل عفلق بصراحة في وثيقة نشرت في 1956 بعنوان (موقفنا السياسي من الشيوعية)، عداءه الشديد للنظرية الشيوعية وأيضا "لوجود حزب شيوعي في بلاد العرب" معتبرا ان الفرق بين حركة البعث وبين الشيوعية هو “الفرق بين ما هو وطني وما هو غريب". وهي فكرة كرس لها عفلق جهدا متواصلا في السنوات التالية. ففي أجوبة لمجلة آفاق عربية في عددها لشهر نيسان 1976، لخص عفلق أفكاره عن الصراع مع الشيوعية كما يلي ضمن اطروحاته الأخرى حول ولادة حزب البعث والرسالة الخالدة وما يميز الايديولوجية البعثية عن غيرها:

- في أوائل الأربعينات كان الصراع المباشر مع الغرب. لكن الصراع غير المباشر كان مع الشيوعية، "كحل ممكن وقابل لأن يحتل عقول الأجيال العربية". ففي مرحلة الثورة "لا تكون خصومتك الفكرية مع الرجعية، وإنما مع الذي يحارب الرجعية ليأخذ دورك. ومن هنا كان ما يشغلنا هو: كيف نستطيع محاربة أوروبا الاستعمارية في الوقت الذي نتفادى فيه خطر الشيوعية، كفكر يؤثر على عقول الشباب ويجعل من نفسه البديل لحركتنا ؟" اذ ان "المسألة كانت مسألة صراع حيوي على الدور القيادي لحركة الثورة العربية.. فنتيجة تقدير لأهمية الشيوعية في هذا العصر ونتيجة حساب بأنها قد تكون البديل لفترة من الزمن.. لأنها حل جذري وحاسم ويمكن ان يظهر بأنه متكافئ، مع الأخطار والقوى المعادية للأمة العربية.. فنكون قد دخلنا في متاهات ليس لها آخر".

- لكن التأثر بالفكر القومي الأوروبي سرعان ما يكشف عن نفسه في مبرر تناقض عفلق مع النظرية الشيوعية بقوله في نفس النص ان "القومية شيء خالد"، و"ان نقدنا للشيوعية لم ينحصر في أن الشيوعية لا تلائمنا كعرب، بل تعداه إلى الكشف عن النقص الأساسي في هذه النظرية بالنسبة للعرب ولغيرهم... فعندما نقول ان القومية شيء خالد، وان الشيوعية قفزت من فوقها وأرادت ان تحطمها، فإننا نكون قد وصلنا إلى ان نكتشف شيئا له صفة الشمول" و"هذا بالذات أعطانا جرأة معينة لنقد الشيوعية، تجاوزنا أوضاعنا القومية الى الأوضاع الإنسانية عامة".

بكلمة أخرى، ولا جديد هنا، ان الرعيل الأول من القادة البعثيين العرب اظهر اعجابا صريحا بالنظامين الفاشي في إيطاليا والنازي في المانيا على كافة المستويات الأيديولوجية والادارية والاقتصادية والسياسية. وهذا الاعجاب نجده لدى عفلق وصلاح الدين البيطار وجلال السيد لا سيما خلال الفترة بين تولي الملك غازي عرش العراق في 1933 واغتياله في 1939، وهي فترة تميزت بتصاعد دعوات رفض استمرار الهيمنة البريطانية على العراق واتساع مشاعر التضامن العربي وظهور بوادر تقارب عراقي مع المانيا الهتلرية بالتزامن مع اتساع نفوذها العالمي عشية الحرب العالمية الثانية وهو ما اقلق البريطانيين جدا. فقد تأثر هؤلاء المؤسسون البعثيون بالافكار القومية الوحدوية الألمانية والإيطالية واطلقوا دعواتهم الى تحرير كافة الدول العربية من الاستعمار والى استقلالها. وعن الفاشية والنازية ايضا اخذ البعثيون فكرة سلطة الحزب الواحد الاستبدادي والهيكلية التنظيمية شبه العسكرية والتحالفات التكتيكية مع القوى المحافظة امن أجل اخذ السلطة والحفاظ عليها. فحتى في ذروة نفوذها وشعبيتها، لم تكن الحركات الفاشية وكذلك الحركة البعثية قادرة على الاستيلاء على السلطة بالكامل بقواها الخاصة وحدها ولذلك اعتمدت على التحالفات مع الأحزاب المحافظة والعشائر من أجل الوصول إلى السلطة. وعلاوة على كل ذلك، ماثل النظام البعثي العراقي في عهد صدام حسين الحركات الفاشية الأوروبية بإقدامه على تنظيم حملات ابادة جماعية ضد أبناء شعبه كما في قصف سكان مدينة حلبجة الكردية بالأسلحة الكيمياوية، فضلا عن التسبب بمجازر رهيبة للجنود العراقيين خلال الحروب التوسعية ضد إيران والكويت.

تلك الاقتباسات من التجارب الفاشية الاوروبية امتدت الى محاولة تلميذ عفلق الأقرب الى نفسه نظام صدام حسين ان يعيد انتاج نظام رايخ ثالث بكل هياكله ورموزه وهيئاته كما يرى ستانلي باين. وبالفعل فقد حاول صدام حسين تقليد النازية في ذلك كله كما في تقديس نفسه كـ"القائد الضرورة" رسميا فيما جاهر عفلق بتقديس الدكتاتور اذا ثبت انه القائل: "إن صدام حسين هو هبة السماء إلى حزب البعث وهبة البعث إلى الأمة العربية".

ان مثل هذه المجاهرة وحتى المزايدة المتدنية أحيانا بالافكار والشعارات والطقوس كان سائدا بقوة في التجارب الفاشية العالمية قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية خاصة. فقد ظل تقديس موسيليني وهتلر يتصاعد حتى أيامهما الأخيرة من نيسان 1945، عندما تم القبض على موسوليني وإعدامه من قبل الثوار الإيطاليين، وانتحار هتلر بعده بيومين في برلين اثر اندحار قواته واستسلام المانيا للمحتلين.