القصة القصيرة جداً وقضية التجنيس

Saturday 22nd of January 2022 11:08:58 PM ,
العدد : 5110
الصفحة : عام ,

على هامش مشغل البصرة السردي الثاني

د. نادية هناوي

انعقد في الآونة الأخيرة المشغل السردي الثاني تحت عنوان(القصة القصيرة جدا أفكار ونصوص) للمدة من 13ـــ 15 كانون الثاني الجاري برعاية اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة.

وجاءت نسخة المشغل هذا العام على شاكلة نسخته الأولى ـــ التي جرت قبل عام تقريباً وكانت مخصصة للقصة القصيرة النسوية ـــ مهتمة أيضاً بالممازجة ما بين البعدين النظري والعملي في الكتابة الإبداعية.

وفي النسختين تبدو فكرة المشغل أقرب إلى الورشة في دلالتها الاستعمالية منها إلى المخبر في دلالته الامبريقية. والمقصد من وراء البحث عن الاستعمالية أو الاشتغالية هو إرساء تقليد لذلك الذي يحتاج إلى التأسيس أو ذاك الذي له تكوين ولكن ينقصه التأسيس. ومعلوم أن التقليد هو استعمال يدشن جديدا أولا، ليفارق في تدشينه ما يشابهه ثانيا، وليشيع بهوية خاصة به ثالثا. وإذا قاربنا أمر التقاليد وتكونها بالقوالب وتشكلها كأجناس أدبية عموما وأجناس سردية تحديدا، فلن تتغير المسألة بالتأكيد. فالكتابة الإبداعية استعمالية ــ إن جاز لنا أن نصف الكتابة بأنها اشتغال ــ وهي في استعماليتها قد تكون مجرِّبة أو تجريبية وقد تكون تقليدية أي مقولَّبة في شكل أو نوع أو جنس معين. وفي كلا الحالين تظل استعمالية الممارسة الكتابية دائرة في قضية التجنيس شئنا أم أبينا.

وصحيح أن من الممكن للمهرجانات والحلقات والمنتديات أن تحفِّز على كتابة فن نادر في استعماله أو محدود في ممارسته، وقد تمهد لتجريب استعمال غير معروف؛ بيد أن ذلك لن يكون له أن يؤسس جنساً بعينه أو يكون قادراً على إشهار نوع فني أو سردي كي تكون له مكانة في عالم التجنيس الأدبي ما لم يكن ذلك النوع أو الشكل قد أسس لنفسه من داخل نفسه بعيدا عن خارجيات التحفيز المهرجاني ومقتضيات التشجيع والترويج المشغلي. ذلك أن تأكيد الرسوخية في القالب هو أمر تاريخي، وإثبات اختلافيته هي مسألة إبداعية، وبهما يتسنى لنوع سردي ما أن يرتقي بحاله ويكون مشروعا له أن يتجاوز الانضواء في جنس أدبي إلى أن يكون دائرا في فلك الأجناس الأدبية متمخضا عنها قالبا، ومستجيبا لموجباتها جوهرا.

ولعل أهم ما يتحصل من المشاغل السردية بمعناها الاستعمالاتي هو إثارة الجدل ودفع المهتمين والمختصين الى التفكر في الاساليب التي يمكن لها أن تدلل باليقين الثابت وتحتج بالادلة القاطعة لما يراد تأسيسه. وهو ما تسعى إليه مشاغل البصرة الإبداعية، تارة بمحاولة إرساء تقاليد القصة النسوية وتارة ثانية بتجريب تجنيس القصة القصيرة جداً وتارة ثالثة بإعلان الهايكو نوعا من أنواع الشعر العربي مما أراد مشغل الهايكو البصري بلوغه أيضا.. ولم يتحقق لا هذا ولا ذاك؛ إذ لا حجج ولا تدليلات تمخضت عن تلك المشاغل.

ولقد كانت مداخلة الأستاذ القاص محمد خضير التي ختمت فعاليات المشغل السردي الثاني مهمة كرؤى وتصورات نابعة من صميم تجربته الخاصة في كتابة القصة القصيرة. ولأنه عرّاب هذه القصة ولأنه الأدرى بشعابها، شخّص في المشغل قصوراً لا من ناحية القراءات السردية التي أشاد بها وإنما من ناحية التحليلات النقدية التي وجدها افتقرت إلى الفكر النظري الذي هو مراد المشغل ومقصوده الذي دلَّ عليه تقديم(الأفكار على النصوص) هذا أولا، وثانيا مما كان المشغل هادفا إليه ومعقودا من أجله وهو تجنيس القصة القصيرة جداً وقبل ذلك الاتفاق على تسمية ما لها، وقد ذكر الاستاذ في مشكلة التسمية كتابين لكن فاته أن يذكر بحث الدكتور صالح هويدي في كتابه الموسوم(السرد الوامض) والذي سبقهما بصدوره عام 2017.

وليس بغريب على أستاذ القصة القصيرة العراقية والعربية أن تكون له وجهة نظر ترسم خارطة طريق لتجنيس القصة القصيرة جداً، وتمثلت هذه الخارطة بثلاثة أسس أو مقتربات وجد الاستاذ محمد خضير أن بها تتحقق هذه الغاية التجنيسية. ولكن التساؤل يظل قائما وهو: هل يملك المشغل مشروعية السعي نحو التجنيس وهو يدعو إلى تجريد القصة القصيرة جدا من شروطها الفنية كالمكان والشخصية والزمان؟ إلا يحيلها هذا التجريد إلى فنون كتابية أخرى كالخاطرة وقصيدة النثر أو الخبر أو التوقيعة او النص المفتوح ؟ وكيف تكون المفارقة أو كثافة اللغة الشعرية سمة من سمات القصة القصيرة جدا وهو أمر معتاد ومعهود بكثرة في الروايات والقصص العربية والعالمية كما أن القول بصعوبة القصة القصيرة جدا ليس مخصوصا بها وحدها بل أن أي فن ناجح هو صعب دائما، والفن الهابط هو الاسهل طبعا؟ واذا كانت دلالة(جدا) في القصة القصيرة تعني القصر فهل هو القصر المتناهي او اللامتناهي أي أن يكون في جملة أو اثنتين او عشر وأكثر؟ فهناك قصص قصيرة جدا حجمها يزيد على مئات الكلمات وبالعكس هناك قصص قصيرة مؤلفة من بضعة سطور ولا تسمى قصصا قصيرة جدا؟ ثم أن القصة القصيرة جدا لا تمتلك ذاكرة قرائية بعكس الرواية والقصة القصيرة، فنحن نتذكر قصصا وروايات كثيرة ومن أجيال مختلفة بينما لا يمكننا أن نتذكر قصصا قصيرة جدا لهذا الكاتب او ذاك ؟

لا أريد أن أعطي إجابات جاهزة من اليسير الاحتجاج على صحتها بما كنتُ قد طرحتُه في نظرية قائمة بذاتها في كتابي(نحو نظرية عابرة للاجناس)2019 فضلا عن المقالات والدراسات التي يضيق المقام بذكرها..ولكنني أريد هنا أن أؤشر على قصور آخر أضيفه إلى القصور الذي شخّصه القاص الكبير محمد خضير في مشغل البصرة السردي وهو استهانة نقدنا العربي بالمنظرين السرديين العرب مقابل احتفائه الانبهاري بالمنظرين السرديين الغربيين وغير الغربيين. وليس من تفسير للاستهانة والانبهار سوى عقدة التبعية التي تجعلنا نرى أنفسنا صغارا أمام الآخر بوصفه هو وحده المفكر والمنظر. ولا اعتقد أن هناك ناقدا عراقيا مهتماً بالتنظير للتجنيس لم تطرق مسامعه نظريتي عن(العبور الأجناسي) والمساعي التي بذلتها في هذا الصدد لكن للأسف لم أجد إلى اليوم استعمالاتي المفاهيمية حول التجنيس توضع في موضع الاختبار لاسيما ما عددته من أن القصة القصيرة هي الجنس العابر على الأجناس العابرة وغير العابرة.

وهنا أعيد ما قلته في كثير من المناسبات وهو: إن(القصة القصيرة جدا) لم يستقر بعد شكلها السردي لتكون جنسا مستقلا، وهنا تكمن المعضلة في الاختلاف النقدي حولها من ناحية بنائها ومحددات كتابتها والاجتهادات حول الوضعية اللائقة في تسميتها. وإذ لا ننكر أن(للقصة القصيرة جدا)من الحدود ما يجعلها نوعا قصصيا، لا كما يُعتقد أنها لا تمتلك أي مقوم من مقومات العمل القصصي، بيد أننا نقول إن هذا النوع لا يملك رسوخ الجنس ولا يتحلى باختلافيته، ومن ثم لا تتوفر فيه مؤهلات التجنيس التي حددناها في كتابنا آنف الذكر، ومنها الاستقلال والاكتفاء.

ويشير القاص الكبير الى تحديدات لهذا الضرب من الكتابة القصصية، مؤكدا ما طرحه د.سلمان كاصد فيحددها بالفنية والموقف والقصدية. وهذه سمات عامة تشترك فيها كل الفنون ولا ينفرد بالامتياز هذا الضرب من الكتابة. وهو حين يمثل على التحديد الثاني(الموقف) ــ الذي يعده رديفا لعادات الكاتب ــ بكتاب الجاحظ، فانما ينسف انفرادية القصة القصيرة جدا بهذا التحديد فكتاب الجاحظ كما هو معلوم أخبار وحكايات ونوادر، وهو ما دعا القاص إلى عزل القصة القصيرة جدا عنها، فكيف تستقيم لها الاستقلالية إذن ؟!

ومما دعا إليه القاص محمد خضير عدم التفكير بتجنيس (القصة القصيرة جدا) وهو أمر لا يقوم على أساس دقيق لأن أي كتابة لابد لها من هوية، وليست هناك كتابة بلا خصوصية هوياتية ولأن الجنس وحده ذو قالب له مكوناته القارة وله استقلاليته واختلافيته عن سواه من الاجناس الرئيسة او الكبرى، لذلك تنتمي إليه مثل هذه الهويات السردية بهذا القدر أو ذاك. وإذا كان الجنس نفسه ذا قالب عابر فعندها تنضوي شتى الأنواع أو الأشكال أو الأنماط أو الصيغ ليعبر بقالبه عليها. وفي كلا الحالين يغدو ما يسمى القصة القصيرة جدا منضويا في جنس القصة القصيرة العابرة، وبالطبع لا علاقة لمسالة القصر في الحجم بالتجنيس او استقلاليته واختلافيته كما بينا سابقا.

وقد تطرق القاص الكبير محمد خضير إلى الكاتب الاوراغواني(ادواردو غاليانو) ولست أدري إذا كما كان قد اطلع على دراستي(ادواردو غاليانو والعبور الاجناسي) المنشورة في ملحق القبس الثقافي في تموز 2021 أو أنه استقى ذلك من مصدر آخر؛ وفيها أشرتُ الى عدم تجنيس غاليانو لعمله(أبناء الأيام) ولكن ذلك أتى بعد تدقيق وتمحيص في الأمر. إذ أن المترجم البارع صالح علماني كان قد كتب عليه مفردة رواية، لكنني على وفق معطيات النص شككت بمسألة التجنيس فكان لا بد من الاطلاع على النسخة الأصلية والوقوف على نوعية التجنيس الذي أطلقه غاليانو على عمله، وتوجهت إلى صديقتي الدكتورة باهرة عبد اللطيف وهي تجيد الاسبانية وتترجم منها وتقطن في أسبانيا البلد الذي صدرت فيه رواية غاليانو؛ فافادتني بأنه لم يضع أي تجنيس لعمله في الطبعة الأم، أي الطبعة التي أشرف عليها غاليانو بنفسه. ولهذا عددته مثالا للكاتب الذي استولت القصة القصيرة العابرة على كتاباته، عارفا إمكانيات القصة القصيرة في العبور؛ أولا على أجناس(الرواية وقصيدة النثر والمقالة) وثانيا في العبور على أنواع وأشكال مثل القصة القصيرة جدا والقصيدة الومضة والهايكو، وثالثا عبورها على أنماط فنية كالحوار والدراما والخبر والمشهد والتقانات بدءا من التناص وانتهاء بالمفارقة والمونولوج.

مؤدى القول إن القصة القصيرة كتابة سائلة الحدود وعابرة التجنيس، وباستطاعتها أن تصهر في قالبها أنواعا أندرجت فيها بموجبات ثيماتية وشكلية لا مولدة ولا متفرعة، وهو ما لا تستطيعه (القصة القصيرة جداً) التي هي فرع ينتمي الى أصل تولدت عنه وهو القصة القصيرة التي هي نفسها مرت بتطورات تاريخية تم فيها تجريب تكنيكات نصية ومضامين فكرية، أثبتت بمرور الزمن فاعليتها الجمالية. وهذا الثبوت في الفاعلية حقق للشكل الكتابي الرسوخ الذي به صارت(القصة القصيرة) جنساً من الأجناس العابرة.