من الخارج: (نظرية اللعبة)..كيف يجري تطبيقها في أوكرانيا؟

Wednesday 11th of May 2022 11:41:42 PM ,
العدد : 5181
الصفحة : آراء وأفكار ,

 سيرجيو بيرالدو*

ترجمة:المدى

منذ حوالي ستين عامًا، نشر توماس شيلنج الحائز على جائزة نوبل كتابًا بعنوان (استراتيجية الصراع).. لقد تم كتابته خلال الحرب الباردة وعكس المخاوف النموذجية في ذلك الوقت. وقد بحث، من بين أمور أخرى، فرص أن تضطر البشرية إلى الحد من الضرر في حالة حدوث مواجهة عسكرية مفتوحة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.

وحتى أسابيع قليلة ماضية، كانت مساهمة شيلنج تبدو وكأنها تحليل قديم لمشاكل القرن العشرين. لكن الغزو الروسي لأوكرانيا جعل الأمر ذا صلة مرة أخرى، وصار يمكن لنظرية اللعبة أن تقدم إرشادات حول كيفية معالجة بعض المخاوف الحالية، فهل سيكون تصعيد الصراع ممكنا؟ وكيف يجب أن تفسر الدول الغربية التهديد الروسي باستخدام الأسلحة النووية؟ وهل ستكون العقوبات الاقتصادية مفيدة؟ وإلى أي مدى تخطط روسيا لتوسيع نفوذها وسيطرتها؟.

وتصور نظرية اللعبة التصعيد كأداة تستخدمها الدول أثناء مساومة الحرب والسلام،اذ تتعلق عملية التفاوض بمورد متنازع عليه (قطعة أرض، مدينة، رهائن، إلخ). وفي اللعبة، يقدم كل لاعب عرضًا يمكن قبوله أو رفضه من قبل الآخرين. فإذا كان هناك لاعبان فقط، يؤدي القبول إلى توزيع المكاسب وفقًا للشروط المفصلة في الاقتراح نفسه ؛ والرفض عند استئناف المساومة.ويريد جميع اللاعبين الموافقة على اقتراحهم. لذلك يحاول الجميع تصميم آلية تجعل اللعبة جذابة وتزيد من تكلفة الرفض.

إن فكرة التصعيد حاسمة هنا: اذ يوقف اللاعب ويقبل عرض الخصم إذا كان الاستمرار يجب أن يكلفه أكثر من القبول. هذه وجهة نظر شيلينغ: فالخوف من التصعيد هو ما يقنع اللاعب بالاستسلام وإنهاء اللعبة. ومع وضع هذا في الاعتبار، يلعب تحمل التكلفة، أي الحد الأقصى للتكلفة التي يرغب اللاعب في تحملها للحصول على تلبية مطالبه، دورًا رئيسيًا.فإذا كانت المعلومات كاملة وكان كل لاعب يعرف عتبة التسامح لخصمه، فإن نتيجة اللعبة واضحة: فاللاعب الأكثر خفة يتنازل على الفور. وفي حالة النزاع الأوكراني، يمكن أن تكون التلميحات الروسية لاستخدام الأسلحة النووية مثالاً على ذلك. فالنظرية تقترح أن الفاعل الأقل تحملاً للتكاليف يميل إلى تكثيف نشاطه خلال الفترة الأولى من الأزمة ؛ وهذا التصعيد التدريجي يميز أولئك الذين لديهم موارد كبيرة نسبيًا.وفي الوضع الحالي، ليس لدى الناتو والاتحاد الأوروبي أي حافز للتصعيد السريع، على عكس الاتحاد الروسي اذ يمكنهم استخدام قوتهم الاقتصادية لفرض عقوبات صارمة على نحو متزايد، وهو أيضًا شكل من أشكال التصعيد. فالردود المتاحة للكرملين محدودة. وهذا من شأنه أن يفسر سبب احتمال تكثيف موسكو للعمليات العسكرية في أوكرانيا لتحقيق أهدافها في أقرب وقت ممكن أو تقييد أهدافها للتكيف مع وسائل ردها.

ويدرك الاتحاد الروسي أن الاتفاقات المستقبلية يجب أن تتم الموافقة عليها من قبل الحكومة الأوكرانية وكذلك من قبل الكتلة الغربية. ويمكن أن يكون التهديد النووي بعد ذلك وسيلة لحث الغرب على قبول حل وسط سريعًا، ونزع فتيل خطر كبير يتمثل في عدم الاستقرار في موسكو. ولكن يمكن أن يُنظر إليه أيضًا على أنه علامة ضعف، ونعلم جميعًا أن محاصرة الخصم وظهره على الحائط يمكن أن يكون له عواقب وخيمة.

إن تفاعلات الأزمة الأوكرانية المتسارعة، وتشعُّب تأثيراتها، وتعدُّد اللاعبين فيها، تجعلها أكثر تعقيداً، وأكثر تمنّعاً على الحل. لكنْ، يمكن، في هذا السياق، الاستفادة من “نظرية اللعبة” في العلاقات الدولية من أجل تفسير تلك التفاعلات، ومحاولة تطوير سيناريو منطقي لنهايتها، يكون مقبولاً من الأطراف الأساسية والفاعلة في رسم نهاياتها.

وتتضمَّن النظرية تحليلاً رياضياً لتضارب المصالح “من أجل الوصول إلى أفضل الخيارات الممكنة، لاتخاذ قرارات تحصل على النتيجة المرغوبة في ظل الظروف الموجودة”.وقد تم تطُبيقها سابقاً في اللعبة الكبرى في أفغانستان، وفي أزمات أخرى، وهي تقوم على افتراض مفاده أن قرارات كل لاعب في الأزمة تعتمد على قرارات اللاعبين الآخرين. وبالتالي، فإن هؤلاء اللاعبين يتبادلون التأثر والتأثير في قرارات بعضهم البعض، في سبيل تحقيق مصالحهم الخاصة. وتقسّم النظرية القرارات إلى نوعين من الألعاب، هما: ألعابٌ تنافسية، بحيث يسعى كل طرفٍ لتحقيق مصالحه الخاصة.وألعابٌ تعاونية، بحيث تتشكل فرص وأحلاف تحقّق مصالح مشتركة.وفي حالة الألعاب التنافسية، يستخدم اللاعب قدراته الإدراكية والذهنية في تحديد القرارات التي تحقق مصالحه،وفي اختيارها. ويحدد نقطة التوازن لمصالحه، بحيث يؤدي تحقيق هذه النقطة إلى تحقُّق مقدارٍ مقبول من المصلحة الخاصة به.أمّا في حالة الألعاب التعاونية، فإن اللاعبين المتعاونين يسعون لتحقيق التوازن ونقطة المصلحة المشتركة التي تعطي كل لاعبٍ قدراً من المصلحة أكثر مما كان سيحصل عليه لو عمل بصورةٍ مستقلة

وبتطبيق هذه النظرية على الأزمة الأوكرانية، فإن من الممكن أن ترتسم معالم سيناريو للحل السياسي الذي يعطي الأطراف المتصارعة نقاط توازن مقبولة تساهم في وقف النار، وتأسيس استقرارٍ مستدام في المنطقة. إن اللعبة الأوكرانية الحالية تمثّل نموذجاً عن ألعاب متباينة، تعاونية وتنافسية. ويمكن، في كلٍّ من الحالتين، تحقيق حل سياسي مقبول.ففي حالة الألعاب التنافسية، تريد أوكرانيا خروج القوات الروسية من البلاد، وعودة الوضع إلى طبيعته قبل العملية العسكرية، وتشديد العقوبات الغربية على روسيا، ومتابعة مسار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وتطوير اندماجها في المنظومة الغربية.أمّا روسيا، فإن نقطة التوازن نفسها بالنسبة إليها تتمثّل بتحقيق الضمانات الأمنية والشروط التي وضعتها في بداية العملية العسكرية، على نحو يشمل منع أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو، وتثبيت الاعتراف بالجمهوريتين في الدونباس، وإعطاء الروس -الأوكرانيين حقوقهم السياسية والثقافية كافةً، ونزع السلاح الثقيل من أوكرانيا، وتحديد مستوى التسلح المستقبلي لها، ومنعها من إنتاج سلاح نووي.

أمّا الولايات المتحدة الأميركية، فإن نقطة التوازن المثلى بالنسبة إليها تتحدّد في استكمال العقوبات القاسية على روسيا، وإخراجها من أوكرانيا، بالإضافة إلى إبقاء أوكرانيا مرشحاً متعطشاً إلى الانضمام إلى “الناتو” وإلى الاتحاد الأوروبي، مع إطالة مدة البتّ في عضوية هذا المرشح، سعياً لإبقاء الساحة الأوكرانية مساحةً للضغط على روسيا من ناحية، وانتظام الأوروبيين خلف قيادة أميركا للمنظومة الغربية من ناحية ثانية، تأسيساً على خوفهم المتنامي من روسيا، بفعل الأزمة وما رافقها من حملات إعلامية ودعائية.وبالنسبة إلى دول أوروبا الغربية، فإن نقطة التوازن المنطقية الفضلى ستكون تراجع روسيا من أوكرانيا، واستعادة المسار السياسي، واستكمال البحث في مسائل عضوية أوكرانيا في “الناتو” والاتحاد الأوروبي (توجد مواقف أوروبية معارضة لضم دول جديدة إلى المنظمتين)، وبدء خفض العقوبات على روسيا من أجل استكمال مسار المصالح المشتركة معها، وخصوصاً فيما يتعلق بالغاز الطبيعي.

إن التحدي الكبير يتمثّل بانتقال تطبيقات نظرية اللعبة في الأزمة الأوكرانية، من ألعاب تنافسية إلى ألعاب تعاونية بين اللاعبين. وفي حالة الألعاب التعاونية، فإن السيناريو العادل، والذي يمكن التوافق بشأنه، بالنظر إلى الاحتمالات القائمة اليوم، والخيارات التي أصبحت أمراً واقعاً ولا يمكن التراجع عنه، يتلخص في عدة نقاط هي:صرف النظر عن ضم أوكرانيا إلى الناتو.وقبول جميع الأطراف انضمامَ أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، وتسريع مسار طلبها عضويته، والذي عادةً يحتاج إلى وقتٍ طويل.وقبول أوكرانيا في المنظومة الاقتصادية والحقوقية الغربية.وسحب القوات الروسية من أوكرانيا، في مقابل اعترافها بوضع خاص لجمهوريتي الدونباس.مع اعتراف كييف بالحقوق الثقافية والسياسية للمواطنين الروس - الأوكرانيّين داخل أوكرانيا.وتوافق الأطراف كافةً على منع أوكرانيا من تطوير أسلحة نووية.وتحديد مستوى تسلُّح أوكرانيا على نحو يضمن عدم تشكيلها خطراً على الأمن القومي الروسي.واستعادة مسار البحث في مسائل الأمن الأوروبي من خلال مجلس روسيا - الناتو. ووقف توسُّع الناتو لضمّ دول جديدة في محيط روسيا، على نحو يُلغي نظرية الاحتواء الأميركية في محيط روسيا...

* أستاذ في الاقتصاد بجامعة نابولي

فيديريكو الثاني