مظفر النواب… شاعر الصور المدهشة

Saturday 21st of May 2022 10:57:06 PM ,
العدد : 5187
الصفحة : عام ,

هكذا يرحل المبدع الكبير مظفر النوّاب، ويذهب معه جزء حميم من شبابي الشعريّ والشخصيّ، ومن فتوّة الكثيرين من أبناء جيلي.

 شاعر خلق رمزيته النضالية الخاصة، وجمالياته الشعرية التي لا تضاهى، والتي شاعت، بين العراقيين، شيوع الأسطورة. ولم يكن النوّاب، لمن لا يعرفه جيّدا، مجرّد شاعر معروف يكتب القصيدة بالفصحى، فهذا ما يعرفه الكثيرون، بل كان مجددا ذا تأثير كاسحٍ في فضاء شعريّ آخر. كنا في بداياتنا الشعرية، حين استيقظت بغداد كلها، ذات يوم، على هذا المجدد الجريء الجميل، الذي صارت قصيدته العامية المدهشة «للريـل وحمـد» تتردد على شـفاه الكثيرين.

ما كان يفعله مظفر النواب هو ما فعله بدر شاكر السياب تماما، لكن على الضفة الأخرى من اللغة: في فضاء القصيدة العامية العراقية، بعد أن بلغت شيخوختها الحتمية أو كادت، ووجدت نفسها في عنق زجاجة خانقة. فلم يعد في مقدور شعرائها أن يطلوا على أفق أرحب من تلك المطحنة الحافلة بالتكرار وضجيج القوافي التي أرساها شعراؤها التقليديون الكبار. كانت تدور على ذاتها دون طائل جمالي أو دلالي كبير تقريبا. فلم يكن لها، مثلا، شيء من ترف الأغنية اللبنانية أو شغفها الطفوليّ بالطبيعة أو انفعالها اللذيذ بالحياة، وليس لها من غنج الأغنية المصرية وخفتها، أو معانيها المبتكرة ما يمكنها التباهي به.

لقد ظهر مظفر النواب، في تلك البراري الشعرية المتفحمة، ظهور المبشر بالخلاص. فلم يكن منسوب المياه، قبله، كافيا لإنعاش المخيلة العامية. كانت المخيلة العامية موشكة على الهلاك: حيث الصور الجاهزة والإيقاع الرتيب والمبالغات العاطفية، واللغة المتخشبة، هي القدر المهيمن على معظم ما تنتجه. وللمرة الأولى يأتي أرض القصيدة العامية الوعرة شاعر مثقف، مقبلا من حاضنة جمالية عالية: القصيدة الفصحى، الوعي الفني والموقف الاجتماعي والترف اللغوي. ولا ننسى هنا ما يتمتع به النواب من كاريزما مؤثرة، إذ كانت شخصيته الجذابة وإلقاؤه الشبيه بنواح الذئاب الجريحة، من العوامل الكبرى التي أسهمت في شيوع قصيدته وعمقت أثرها في نفوس جمهوره الواسع.

لقد حرر مظفر النواب الكتابة بالعامية من اقترانها بعامة الناس، من محدودي الثقافة، أو معدوميها أحيانا، وارتفع بها إلى مستويات إبداعية رفيعة لم يسبقه إليها أحد إلا في القليل النادر. جدد بنيتها الإيقاعية وأخرجها من ذلك المجرى الرتيب الضيق، إلى تموج إيقاعي بالغ الثراء والنفاسة، وجدد لغتها الشعرية فأدخلها في صميم الوجع الإنساني والوطني دون مباشرة أو تسطيح أو مبالغات. وكان للنواب دور ريادي خطير في تحرير القصيدة العامية من ذكورية طاغية هيمنت عليها زمنا طويلا، حتى صار شاعر العامية لا يجد حرجا في مخاطبة أنثاه بضمير المذكر، ويأنف من مخاطبة المرأة بضميرها المخصوص، ويتعإلى على مشاعرها ورغباتها الإنسانية المكبوتة، جاء مظفر النواب ليكتب قصائده بلغة الأنثى المتيمة، والمهجورة، والعاتبة، والمنتمية إلى أحلام الناس.

 علي جعفر العلاق